ثقافةصحيفة البعث

منديل لبيبة وعصا الوحش

المسرح جمعني بأمينة.. على الخشبة أفرغت كل ما أحتويه من جهد وطاقة ورغبة.. لا أرتضي بغير أمينة بطلة، ولن يكون سواها، فالعمر كما قالت قصير جداً حتى نؤجل هذا الحب إلى الغد.

حاولت جاهداً إحياء الأحداث القديمة ببعض مستلزماتها التي بقيت كوديعة غرامية لأجل غير مسمى.. قلم روج مستخدم جداً.. وجه وسادة عليه أثر كحل.. وبعض المسروقات التي من المستحيل أن تشعر بفقدانها كالمنديل وربطة شعر مطاطية. وغالبا ما كنت أتعمد نبش هذه المستحاثات التي مضى عليها أكثر من خمسة أعوام مذ رحلت أمينة مع عريسها المهم جداً إلى خارج البلاد بدون أي خبر.. وقد اتخذت لنفسي صفة الأرمل كإجراء علاجي لتدارك الفشل والنهاية البشعة التي رسمت ملامحها فيما لو بقيت عاشقاً مغدوراً، فاعتبرت أن النهاية هي الشيء الثابت الذي لابد أن يكون، ولولا النهاية لما كانت البداية، ولكي تستمر الحياة يجب أن يبقى الموت، وإذا استمرت الحياة بدون الموت فإن الحياة ستفقد صفة الحياة ذاتها وتفقد أهم أسبابها وهو الموت، ولن يكون للموت قيمة لولا الحياة، وكل الموجودات هي السالب والموجب والذكر والأنثى والخير والشر والنار والماء.. الخ.

لولا الشيطان لما عرفنا الله، والله أعلم بخلق شياطينه، ولذلك فإن الألم ضرورة والرحيل ضرورة والعدو ضرورة كبرى.، وللأمانة لم يكن ذلك الرجل هو عدوي ولم تكن أمينة، لكن الفقر وحده بات من ألد أعدائي الحقيقيين والشيطان المبين.     بدون قهوة، ألبس قميصي المتجعد جراء تقدمه في السن وجورب سميك تركه لي والدي بعد وفاته، ثم أنطلق سيراً في شوارع العاصمة بحثاً عن أي عمل مهما كان شاقاً أو بليداً علّه يفي ببعض التزاماتي الشتوية التي تراكمت ولم يعد بالإمكان سد الديون دفعة واحدة..

اقتنصت فرصة العمل كسائق أجرة ثم تدرجت إلى سائق حافلة مدرسية ثم إلى سائق خاص عملت من خلالها مع السيد لطفي أبو دهب الصديق الحميم لبعض صناع القرار والمقرب جداً من رجال الدين الشغوفين بالنجومية.

لا يتحدث السيد لطفي كثيراً بل غالباً ما كان يشير بإصبعه نفياً أو إيجاباً، وفي الطريق حدثته عن حالي مستمعاً إلي بدون أي إشارات تذكر إلى أن وصلنا المكتب حيث طلب مني الانتظار. استخدمت معه كافة وسائل التعبير عن الفقر والعوَز.. ارتجفت وتأتأت وارتبكت وطأطأت.. تعمدت إرسال أي شعور بالبؤس حتى يلين قلبه ويحرك شفته الصامتة.

بعد أيام طلب مني نقل أمتعتي والسكن في منزل صغير مجاور له في الحي كان يملكه السيد لطفي حيث الكهرباء دائمة والشوارع نظيفة جداً وروائح السكان هناك تشبه إلى حد ما معجون الأسنان، وهناك حلت البركة وقام بإرسالي إلى منزل صديقه الملقب بالوحش لتعليم ابنته زمرد فن التمثيل والإلقاء.

الدرس الأول مهم جداً من أجل بناء الثقة مع الوحش.. وفي الدرس الثاني والثالث كانت بداية الترويج لقصة غرامية مع زمرد انتهت بزواجي منها في صالة ضخمة للأفراح أطلق خلالها عشرين طلقة في الهواء ابتهاجاً واصطهاجاً.

هو النصر على الفقر المقزز وعصر التحول من الخبز الحاف إلى اللحم الضأن، والمثير لاهتمامي أكثر كانت سطوة الوحش التي أدخلتني إلى الشاشة بسرعة البرق وانتعاش ثروتي لتصبح بالعملة الصعبة. أما زمرد فقد تغيرت توجهاتها على كثرة الخيارات واستقلت بعملها كمديرة لسلسلة مراكز تجميل وإعادة هيكلة (تزوير مشروع)، وبادرَت بطلب الانفصال بعد زيجة لم تكمل عامها الثالث بعد بحجة أن الحياة لم تعد تطاق، وأن انتشالي من بؤرة الجوع كان تماشياً مع المظهر العام للعائلة.

خرجت يومها من الفيلا ببذلة سوداء لمّاعة وبعض أغراضي الشخصية ومن ضمنها مستحاثات أمينة ومعطف أبي، ثم اتجهت وسط العاصمة كجائع ذي الخمس نجوم أبحث عن دور أياً كان نوعه في مسلسل الصراع مع الفقر.

المثنى علوش