ثقافةصحيفة البعث

“شيخ الوراقين” يغادر ويترك بسطته الأخيرة

 

لفتت نظره كومة الصحف والكتب والمجلات القديمة على العربة التي كان يستخدمها في لف قطع الهريسة على عربة متنقلة في شوارع دمشق مع والده، فطلب شراء بعضها لأنها كانت –بنظره- مهمة جداً، كان من المثقفين المهووسين بجمعها ووجد ضالته في هذه الكومة التي لم تكن تعني لصلاح صلوحة وقتها سوى أوراق للف، ومن وقتها بدأت علاقته مع الورق، فاتجه للمتاجرة بها لكسب بعض المال، وانكب على قراءة هذه المجلات، وميز من خلال طلبات المثقفين العناوين المهمة والمهمة جداً والنادرة، وماذا تعني طبعات وأعداد أولى، وبحث عن كل ما هو قديم وقيّم، اشترى كل ما وجده ثم حمله إلى شارع النصر وسط دمشق، بسط حمولته الثقافية على الرصيف لبيعها.

التوءم
منذ الطفولة وهو جوال في طرقات دمشق، وإثر خلاف مع والده أصبح موزعاً لمنشورات “دار الصياد” البيروتية عند شارات المرور في شوارع بيروت، بدأت رحلة صلوحة مع الورق في أواخر خمسينيات القرن المنصرم لتبلغ ذروتها في ستينيات وسبعينيات وثمانينيات القرن المنصرم، وفي رحلته الكثير من المحطات والمغامرات خاصة أن هوايته ومهنته كوراق سمحت له بإقامة علاقات صداقة مع كثير من الأدباء والصحافيين العرب الذين كانوا من زبائنه وتحولوا لأصدقاء له ومنهم البردوني وممدوح عدوان وسعيد فريحة وآخرون. وصف صلاح الكتب أنها غذاء الروح ومحبته لمهنته وشغفه بها وصلت لدرجة أصبح الكتاب توءمه، وتنوع في اقتنائه من مصادر مختلفة فبعضها أتى من ورثة المثقفين والأدباء الذين لا يقدّر معظمهم قيمة ما لديهم، وهناك من اضطر للسفر أو بتغيير السكن للاستغناء عنه، وإن كان ذلك لا يعني بطبيعة الحال أن أيّ كتاب سيجد من يشتريه إلا أنه لم يتردد في جمعه.

الكمبيوتر اللعين
لُقب صلاح صلوحة بـ”شيخ الوراقين”، وهو آخر وراقي دمشق قبل دخول الجهاز اللعين “الكومبيوتر”، كما قال عنه معلقاً: “إنني أكرهه ولا أطيقه، لقد أصابني بخيبة أمل كبيرة وجعلني مهمشاً في هذا الزمن، لقد أنهى الكومبيوتر رحلتي مع الورق وجمع الصحف وتوثيقها وكذلك جمع الكتب القديمة”.
أمضى صلوحة أكثر من أربعين عاماً في اقتناء الكتب حتى جمع منها أكثر من عشرة آلاف كتاب في مختلف ألوان المعرفة الإنسانية، إضافة إلى أكداس مكدسة من المطبوعات العربية من مجلات ثقافية وسياسية وغيرها وهي تكاد تغطي تاريخ قرن كامل، والكثير من المجلات العربية الثقافية والفكرية ومجلات الأطفال التي يقتني مجموعات كاملة منها، وخاصة تلك التي احتجبت، إضافة إلى الكثير من الوثائق النادرة.
غص مستودعه بالمجلات والصحف والكتب القديمة والصور وهناك الأعداد الأولى من معظم الصحف والمجلات العربية ولديه الكثير من الوثائق النادرة التي كان يقيم لها المعارض باستمرار مع عدد من هواة التوثيق السوريين، ومن أهم المطبوعات الإعلامية التي احتواها في أرشيفه: نماذج من الصحافة السورية من عام 1910 إلى عام 1970 فيها أعداد أولى لعدد من الصحف “الثورة، البعث، الاعتدال”، ونماذج من الصحافة العربية من عام 1876 حتى عام 1970 تحوي أعداداً أولى مثل: صحيفة الأهرام والاتحاد إلى جانب صحافة الأطفال من عام 1947 مثل أول مجلة للطفل في سورية “العندليب”، و”صوت التلميذ” و”أسامة” بالإضافة لعدد من المجلات مثل أعداد من مجلة “نور الفيحاء” التي كانت تصدرها نازك الملائكة عام 1920 وغيرها الكثير من الصحف والمجلات التي عاود بعضها الصدور ثانية في دمشق مثل “المضحك المبكي”.

كنز
تعتبر مكتبة شيخ الوراقين التي أفرد لها مستودعاً يمتد على مساحة أكثر من 300 متر مربع، كنزاً بكل المعايير وقبلة للباحثين من سورية والوطن العربي والعالم، ومرجعاً للكثير من طلاب الجامعات في الداخل والخارج، وكان يتوق صلاح إلى أن يكون لديه “مال هارون” و”صبر أيوب” و”عمر نوح” ليكمل رحلته الممتعة مع الكتاب، فقد كان مطمئناً إلى كنوزه من الكتب والمجلات والوثائق النادرة، ولكن شبح هذه الحرب قتل الرغبة في داخله فاضطر مع بداية الاشتباكات إلى ترك مكتبته بما فيها في حي “الحجر الأسود” فهرب بثيابه من دون أن يتمكّن من إنقاذ أرواح أسلافه، وترك كل وثائقه وهي بالآلاف هناك لا يعرف مصيرها ومصير منزله والمستودع الذي يضمها، باستثناء ملف ضخم ضم ما كتب عنه من مقالات وحوارات ولقطات من معارضه، ويمكن القول أنه بداية الإعلان عن نهاية حياته إلا أن القدر قاده إلى بسطة متواضعة تحت جسر الرئيس مع شريك آخر لبيع مجلات قديمة محتجبة وكتب تراثية ومعاجم، وبنظرة أسى يقلّب بين يديه كتباً يغطيها الغبار، إلى أن غادر أشهر بائع كتب أرصفة في دمشق منذ أيام بعد تدهور حالته الصحية، إلا أنه أغنى مكتبات الكثير من الأدباء والمثقفين خلال حياته.
جمان بركات