ثقافةصحيفة البعث

بين التّردّد والإقدام.. قد يضيعُ الحلم

 

لعلّ من أقبحِ الأمور وأذمّ الصّفات في سلوك الكائن البشري، والتي تقف عائقاً دون حيازته على شخصيةٍ سويّة تتمتّع بالرّزانة والحكم الصّحيح على المواقف والأشياء، صفة التّردّد التي هي حالة نفسيّة سلبيّة قد تصل بمرتبتها العليا حدّ المرض النفسي. ذاك المرض الذي يورّث صاحبه شخصيّة نكوصيّة، مهلهلة قلقة، مهزومة سلبيّة، هشّة لا تعرف الاستقرار على رأي، غير قادرة على اتّخاذ التّدبير الصّحيح في اللّحظة المناسبة، لا تستطيع المضيّ في الحياة دون أن تكون تابعة لأحدٍ ما، فهي تحتاج لمن يتّخذ عنها القرارات دوماً. والتّردّد أيضاً، هو عدم القدرة على المحاكمة العقليّة ليس فقط في المسائل والخيارات الكبرى، التي قد تكون فيها الخسارات أكثر من الأرباح بالمعنى الماديّ أو المعنويّ، بل وفي القضايا اليوميّة والصّغرى، وهو امتحان صعبٌ خصوصاً إذا كان الأمر يتعلّق بخيارين أحلاهما مرّ، وامتحان أصعب إذا كان يمثّل حالة صاحب من ينطبق عليه المثل القائل “شو أجبرك على المرّ فيقول: الأمر” كذلك شخصيّة المتردّد تنعكس بسلوكها على وسطها الاجتماعي فتصبح مرهقة في التّعامل ولا يُطمئنّ إلى ردود أفعالها، فقد يكون المطلوب منكَ حينها أن تتّخذ قرارين، واحداَ عنك وواحداً عن الآخر. هذا في الوجه الإيجابي لكن إن كنتَ استغلاليّاً ساديّاً فستودي بالآخر إلى الهاوية مستغلّاً نقطة ضعفه هذه، لذلك فالجسارة في الإقدام حتى لو لم تتوفّر كامل أسس معادلة النجاح أحياناً هو الصّح. على مبدأ “على قدر أهلِ العزم تأتي العزائمُ”، أو “شرف الوثبة أن نرضي العلى” لأنّ في الجسارة التي تتطلّبها بعض المواقف ردمٌ لثغرات الخسارة المتوقّعة، وكما يقال: إذا جرّدتَ حسامك من غمده فاضرب، وإلا فلا تجرّده أبداً. وإذا أشهرتَ بندقيّتك في وجه العدو المتربّص بكَ فأطلق النار فهو لا يعبث معك ولا يمازحك بل يريد قتلك في تلك اللحظة التي يخذلك العزم بها، اللّحظة التي تكاد أن تكون معدومة الزمن. وبقولنا التردّد لا يعني التّروّيّ والتّمهل والأناة والبطء بالتأكيد، فهذه صفات محمودة يجب على الإنسان بكلّ مواقعه وتدرّجاته الاجتماعيّة والفرديّة أن يتقنها، فكيف به لو كان يمتهن الأدب مثلاً كحرفة إبداعيّة؟! حينئذٍ ستبرز خطورة هذه الصّفات ومدى أهميّتها، ليس فقط بالبعد الجمالي وحسب، بل والواقعي التراكمي، إذ يجب هنا التدرّب عليها حتى إتقانها، فالوجبات السريعة في الأدب بالتّحديد التي يصدّرها أصحابها قبل الصّقل والدّربة والمهارة وقبل تعمّق تجربتهم الوجوديّة والثقافيّة في الحياة، لن تغني ولن تسمن، وهنا نفهم تماماً معنى التّردّد والحيرة الإيجابيّين للمشتغلين في حقل الأدب والثّقافة وقلقهم وتأمّلهم الطويل في المُنتج قبل وصوله إلى درجة الاختمار، وخصوصاً إذا كان هذا المُنتج هو وليدهم الأوّل، يقول شاعر:
إذا همّ ألقى بين عينيه عزمَه وأعرضَ عن ذكر الحوادثِ جانبا
وكثيراً ما تضيعُ الفرصُ بين التّردد والإقدام على الفعل، فيتكثّف النّدم ويكثر التّبكيت وجلد الذّات عند الإنسان فيما لو لم يتّجه بقراره نحو حسم الأمور العالقة. هناك من شبّه حالة المتردّد بحمار العالم الفرنسي بيريدان” التي يمكننا أن نشبّهها أيضاً بحيرة ذاك السياسي المخضرم، الذي قد تفقد إسرائيل برحيله واحداً من أهمّ رموزها الصّهيونيّة، والآباء الذين ساهموا بشكلٍ كبير في المحافظة على ثباتها حتى الآن. بشخصيّته الديناميكيّة التي تجيد مهارة اللّعب على حبال التّناقضات، أقصد شخصيّة “نتنياهو”، التي انكسرت أظلافها بمطرقة المقاومة، وهو الذي حاول أن يبرز نفسه بطلاً على كلّ الساحات. هذا البطل الذي يبدو الآن أقرب إلى الواهم الكبير “دون كيخوته” الذي حاول بدوره إعادة طقوس الفروسيّة في زمن كان قد تجاوزها. “نتنياهو” فارس الحلم الصهيونيّ الآيل للسقوط الذي حين أتاه الردّ القوي من المقاومة فأوقعه في الفخّ الذي نصبه للآخرين، ليكثر تردّده، وليغيب في قوقعته الجغرافيّة المغتصبة لمسافة تزيد على الخمسة كيلو مترات، عاجزاً عن حماية جنوده، وقد رأى العالم أجمع ما حصل تحت عدسات الكاميرات. وعودة إلى سّرديّة حمار العالم الفرنسي “بيردان” نقول: إنّ حياة المسكين قد ضاعتْ في وهم حكمة التّأني الزّائف الذي يرادف هنا التردّد السلبي، بين خيارين، المسافة بينهما متساوية: “أن يحمل دلواً من الماء أو حملاً من الحطب” ظلّ الحمار يقلّب الأمور على الوجهين وقتاً طويلاً، لم يصلْ فيه إلى أيّ نتيجة، حتى نال منه الجوع والعطش الحدّ الأقصى، ليلقى مصرعه في النهاية، يقول شاعر:
إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمةٍ فإنّ فساد الرأي أن تتردّدا
وقد تنعكس نتائج التردّد على صاحبها بالحزن والغمّ في اللّحظات الفارقة، فيقضي عمره في التّحسّر ومراقبة الناس وسلوكهم مستعيضاً بذلك عن عقدة نقصه، وسلبيّته وهزيمته الداخليّة ، يقول “بشّار بن برد”:
من راقب الناس مات “غمّاً” وفاز باللّذةِ الجسورُ
فما ألذّ الحياة حين نُقبلُ عليها بمتعة المحبّين، بلا تردّد، وأن نمارسها كخيارات حرّة، فنعيش يومَنَا دوماً، وكأنّه أوّلُ يوم في حياتنا، أليستْ الحياة بمعناها الأبهى، فنّ العيش؟ يقول المتنبي:
وفي الجسمِ نفسٌ لا تشيبُ بشيبةٍ ولو أنّ ما في الوجه منه حرابُ
يغيّر منّي الدّهرُ ما شاء غيرَها وأبلغُ أقصى العمر وهي كِعابُ

أوس أحمد أسعد