دراساتصحيفة البعث

سياسة أردوغان والغباء الاستراتيجي

 

ريا خوري

الانتصارات المتلاحقة التي حقّقها الجيش العربي السوري في كلّ من حلب وإدلب أوجدت مجرم الحرب أردوغان بحالة من الهلع والإرباك الشديد. أما شعبه وحلفاؤه من أتباع تيار الإسلام السياسي في العالم والإرهابيون الذين احتضنهم ودرَّبهم وزوَّدهم بالأسلحة والمال فقد فقدوا الثقة به وبنظامه.
جميعنا يعلم مدى الانتصارات التي حقّقها الجيش العربي السوري خلال الأيام القليلة الماضية، حيث سيطر على عشرات القرى والبلدات المحيطة بمدينة حلب، فضلاً عن السيطرة على طريق حلب- دمشق الدولي بالكامل ومساحات شاسعة من الأراضي كانت تحت سيطرة الجماعات الإرهابية. كما استعادت قواتنا المسلحة السيطرة على جميع المناطق المحيطة بمدينة حلب من جهة الجنوب الغربي والغرب والشمال، بما في ذلك الأحياء الغربية من المدينة والضواحي والأرياف القريبة منها والمنطقة الصناعية، كما سيطرت قواتنا المسلحة مساء الأحد 16 شباط على ريف حلب الشمالي والغربي، وهكذا أصبحت المدينة الكبيرة بكل مساحاتها آمنة تماماً، وبعيدة جداً عن متناول قصف الجماعات الإرهابية مما مكَّن الطيران المدني من الهبوط والإقلاع من مطارها الدولي.
إنَّ هذه الانتصارات التي حقّقها الجيش السوري تعدّ إنجازاً استراتيجياً مهماً يساوي قيمة مدينة حلب الإستراتيجية، هذا من جهة. ومن جهة أخرى فإنَّ المعارك الطاحنة ما زالت مستمرةً في المناطق القريبة من مدينة سراقب، وهي مدينة إستراتيجية مهمّة تمكنت قواتنا العسكرية من استعادتها مؤخراً. ليس هذا فحسب بل تمكّن الجيش السوري من اختراق كامل طريق حلب- اللاذقية، وما زالت العمليات العسكرية على أشدِّها من أجل السيطرة الكاملة على المناطق المحيطة به.
إنَّ هذه الانتصارات جعلت أردوغان في حالة هستيريا، حيث وقف كالأهتر يتلجلج بالكلام يتوعَّد وينذر القيادة العسكرية والسياسية في سورية، بأنه سيتمكَّن من طردها من مدينة إدلب إلى خلف نقاط المراقبة التركية التي تمّ الاتفاق عليها بمقتضى اتفاق سوتشي في أيلول 2019 إذا لم تنسحب طواعية ودون شروط حتى نهاية شهر شباط، على الرغم من وجود آلاف الجنود الأتراك على نقاط المراقبة. ونحن من جهتنا نعلم ونرصد كلّ تحركات قوات أردوغان وجماعاته الإرهابية التي زوَّدها بالعتاد العسكري النوعي وكميات ضخمة من الذخيرة، وزوَّد نظام أردوغان الجماعات الإرهابية والتكفيريين والإرهابيين من الإخوان المسلمين بأعداد كبيرة من المدرعات والدبابات وناقلات الجند، والواضح هنا وضوح الشمس أنَّ قواتنا العسكرية قد رصدت تزويد هؤلاء بصواريخ مضادة للدروع ومضاد للطيران من طرز عدة متطوِّرة وأسلحة مزوّدة بأدوات الرؤية الليلية. وللعلم فإنَّ قواتنا المسلحة قد تزوَّدت بأسلحة ذات نوعية فائقة ومنظومات صاروخية فائقة الدقة ومتأهّبة في حال نشوب أية عملية عسكرية وسيكون النصر حليفنا إن شاء الله.
لقد تمكّنت قواتنا العسكرية من قصف القوات التركية مرتين وأوقعت بين جنودها ثلاثة عشر قتيلاً وعدداً كبيراً من الجرحى، وتحدَّث أردوغان في المرتين عن هجوم عسكري تركي ضخم بالطيران ومهاجمة عدد من المواقع العسكرية لجيشنا داخل مدينة إدلب وخارجها، لكنَّ مركز المراقبة في قاعدة (حميميم) الجوية كان قد أكَّد أنَّهُ لم يتمّ أي انتهاك للمجال الجوي السوري نهائياً، وهذا ما ساهم بفقدان الثقة بين الشعب التركي والجماعات الإرهابية التي يدعمها أردوغان، لأنهم يدركون حجم الخيبات التي يتلقاها أردوغان وقواته والجماعات الإرهابية التي يدعمها. وهذا ما يفسِّر إنذاراته وتوعداته المؤجَّلة بالانسحاب إلى خطوط ما قبل هجوم الخريف، وهو مطلب من مهزوم غير معقول ويوحي بعدم الثقة والجدية.
لقد تأكَّد للعديد من المراقبين السياسيين حالة الوهن والضعف التي يعاني منها أردوغان ونظامه جرَّاء انتصارات الجيش السوري، وهو الذي وضع أردوغان أمام العديد من الخيارات التي يمكن أن يختار أحدها ويمكن أن تترتب عليها آلام ونتائج قاسية جداً.

الخيار الأوَّل:
وقف إطلاق النار والطلب من قواتنا السورية الانسحاب إلى مواقعها السابقة على الهجوم الأخير. وهو خيار فاشل لأنَّ قيادتنا سترفضه رفضاً قاطعاً بعد تلك الانتصارات والمكاسب العسكرية الكبرى التي حقّقها، فضلاً عن الحديث عما قبل هجوم الخريف. كما أنَّ روسيا لا تقبل بذلك مطلقاً، وخاصة بعد المراوغات والحركات الالتفافية التي قام بها أردوغان في عدم التزامه بتنفيذ (اتفاق سوتشي) الخاص بمدينة إدلب وريفها، وأولها سحب الإرهابيين من منطقة عازلة تمّ تحديدها بعرض
(15-20 كم2) وتجريدهم من كافة أسلحتهم الثقيلة وفصلهم تماماً عن المنظمات المسلحة الأخرى غير المشمولة بتعريف هيئة الأمم المتحدة للإرهاب، وتسيير دوريات عسكرية تركية – روسية مشتركة في المنطقة المعزولة آنفة الذكر. على أن يتمّ ذلك بحلول منتصف شهر تشرين الأول 2019. وهذا ما دفع الرئيس التركي أردوغان للتصرف عكسه بالضبط على الرغم من نداءات موسكو المستمرة. ليس هذا فحسب بل زوَّد الجماعات الإرهابية المسلحة بطائرات من دون طيار من أجل قصف قاعدة (مطار حميميم) الروسية، ولم يلتزم الرئيس التركي بأي جدول زمني لتنفيذ الاتفاق الذي تمّ توقيعه. وكان من الطبيعي جداً أن تضيق موسكو ذرعاً بكل هذه المراوغات والمماطلات، وكل ما يتمتّع به أردوغان من روح عدائية، من هنا كان إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أنه لا يمكن ترك مدينة إدلب وريفها مرتعاً خصباً للإرهاب والإرهابيين، وأنَّ تصفية كل أشكال الإرهاب أمرٌ حتميّ، مع ملاحظتنا أنَّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين رفض لقاء أردوغان في ظل تلك الفوضى الجارية.

الخيار الثاني:
يرى أردوغان أنه إذا زوَّد الجماعات الإرهابية المسلَّحة بأسلحة متطوِّرة فإنَّ تلك الجماعات ستعيق التقدم العسكري لقواتنا السورية، إضافة لتزويد تلك الجماعات الإرهابية بصواريخ مضادة للطائرات، وهذه الصواريخ ستفشل عملية التفوق الجوي الكاسح لسلاح الجو السوري، كما يتضمن الخيار إقامة المزيد من نقاط المراقبة العسكرية التركية المدججة بالسلاح الفتّاك كي تمثِّل تهديداً كبيراً لقواتنا العسكرية السورية، إضافةً إلى مشاركة القوات العسكرية التركية بقصف الجيش العربي السوري المتقدِّم، وقد تابعنا بدقة العمليات التكتيكية التي قام بها الجيش العربي السوري في تفادي الاشتباك في العديد من تلك المناطق التي أصبح أكثر من نصفها بين فكي كماشة الجيش العربي السوري، وجزء كبير آخر منها محاصراً، وبمنزلة (الرهينة) في يدي قواتنا في حال نشوب مواجهة عسكرية شاملة.

الخيار الثالث:
يعتقد أردوغان أنه إذا ذهب إلى مواجهة شاملة والتي يهدّد بها دائماً سينجح، لكنه من المؤكد لا يستطيع الإقدام على تلك الخطوة بسبب تشابك وتداخل القوى العسكرية في الميدان وعلى مساحات متداخلة ومتفاوتة التسليح، وبسبب المصالح الكبرى المتشابكة مع روسيا، وما تتضمنه من مخاطر كبيرة جرّاء الصدام العسكري المحتدم.
هذه الخيارات الممكنة من الناحية النظرية، والتي لا يمكن أن تتحقّق، من ناحية أخرى ندرك أنَّ دخول الولايات المتحدة الأمريكية على الخط يعقِّد المشكلة أكثر، لأنها تقوم بمهمة تحريض أردوغان على التشدّد بهدف تسميم علاقات تركيا مع روسيا وتصفية حساباتها معها، فقد أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية عن استعدادها التام لدعم أنقرة بمعلومات استخبارية ومعدات عسكرية نوعية لتتمكن من تحقيق أهدافها، وهذا ما أكَّده مايك بومبيو وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية دعم بلاده لأنقرة باعتبارها عضواً في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، كما أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب دعمه لتركيا، وفي الوقت نفسه أعلن موقفه العدائي ضد روسيا. لكن الرئيس التركي أردوغان يهوى اللعب على الخلافات والمتناقضات بين روسيا والولايات المتحدة، حيث كان من الصعب عليه أن يتجاهل التحالف القوي بين الولايات المتحدة والأكراد الذين يكنًّون أشدّ العداء للنظام التركي بشكلٍ عام وأردوغان بشكلٍ خاص. ولأنَّ حلف شمال الأطلسي (الناتو) قد سحب بطاريات (باتريوت) بعد حادثة إسقاط الطائرة الروسية عام (2015)، ونعتقد أنه يميل إلى ابتزاز موسكو بالموقف الأمريكي، دون أن يلقي بالاً لتحريض الولايات المتحدة المتواصل.
من وجهة نظر العديد من المراقبين والمحلّلين السياسيين والعسكريين فإنَّ أردوغان ربما يرجح الخيار الثاني مضطراً، أي استخدام أسلوب المماطلة والمراوغة في محاولة منه للتّخفيف من تنازلاته وخسائره، والحفاظ على ما تبقى من ماء وجهه، لأنَّ الخيار الأول مستحيل التحقّق، والخيار الثالث شديد الخطورة، ونحن في هذا المقام لا يسعنا إلا أن نصف حالة أردوغان بالشخصية الرعناء المتغطرسة وبالأهتر. ولأنه يميل إلى سياسة (حد السكين) أو (حافة الهاوية) فإنَّ احتمالات الخطأ في الحسابات الممزوجة بالغباء السياسي والاستراتيجي يصعب استبعادها تماماً!.