الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

لا النافية للجنس!؟

 

د. نهلة عيسى

 

بداية, أعترف أنني لا أعرف ما الدور الذي تؤديه “لا” النافية للجنس في اللغة العربية, سوى كونها حرف نفي يعمل عمل “إن وأخواتها”, شرط أن لا يسبقها حرف جر, وربما هذا ما يثير اهتمامي بها, والأهم أن اسمها وخبرها نكرتان لا تحابيان أحدا بعينه, ولا ترفعان من شأن أحد, ولا تستثنيان أحداً, شأنهما, شأن “كورونا”.. كاس لكل الناس, وعلى كل الناس!!.

ولأنها كذلك, فهي لا تفارق خاطري, بل تبالغ وتزورني في أحلامي, ويزاحم ظلها ظلي, كتفاً بكتف, وقدماً بقدم, وتتربع كل صباح في عيوني, وجهاً يلاحق أعمالي, وصوتاً بإلحاح.. يرشدني: افعلي ولا تفعلي, ليجعلني في بعض ما أفعل نسخة منها, والغريب أنني نسخة منها, أكره الاستثناء, واحتفي بالمثال, أليس المثال بديلاً لتبجيل فلان وعلان, وتكريماً للمعنى, للبشر كلهم؟ و أليس حكيماً من قال: “مين خلف ما مات”, رغم اختلاف الجنس, رغم أنه لا خلاف, فكلنا أبناء ما نقول!؟.

تلاحق “لا” النافية للجنس أحلامي, رغم أني كل مساء ألقي عليها التحية: مساء الموت يا لائي, فلا ترد التحية, ويأتيني صوتها مستغرباً: من مات؟ أقول: أنتِ, فيرد الصوت متعجباً: أنا!؟ أجل, فيعاندني: أنا لا يمكن أن أموت! فأقول: ليتك لم تموتي, فيتردد رجع ضحكتها, ويواصل الصوت: ليتني أموت, بغيظ أرد: أتسخرين!؟ تجيب بهدوء العارفين: أنا لا أملك أن أموت, راقبي ما تفعلين, أنتِ لا تسمحين لي بالموت!!.

أصدقائي يؤكدون قول “لا”: أنتِ لا تدعينها تموت, وتخبئينها في قبو القلب, وتزعمين أنها تستريح, وكلما سألناك: ممّ تستريح؟ تجيبين: من رؤية تأرجح الأجساد في وطني على حبل المشنقة, أنتِ.. كلما همت بالرحيل, تسدين دروب الرحيل, وتفرشين الطرق بإسفلت حكاياتها.. “لا” قالت كذا, فعلت كذا, كرهت كذا, ضحكت من كذا, وكلما طرقتِ باباً, قلتِ لهم: هذا من لا النافية للجنس, وللاستثناء, وللمُعرف, وهي تقرئكم التحية, وتقول لكم: كل الناس سواء, فكيف ستموت وأنت لا تكفين عن دق الأبواب!؟.

تلاحق “لا” أحلامي, ومنهك قلبي من الطرق على أبواب البيوت, علني أرى في أعين الأحياء ظل ندم, أن “لا”, رحلت خوفاً من تغير ملامح الوطن, وأنها غادرت ليس فقط لغتنا, بل كل تصرفاتنا المطوبة لتكريس آلهة من البشر, وللتمسح بأعتاب الرياء, حيث الرياء بات الغذاء في بلاد يبيت فيها كثير من الناس بلا عشاء, ويظنون أن ما بهم غضب من السماء, وربما تباشير يوم القيامة!!.

تلاحق “لا” أحلامي, فأقاطع النوم, وأخبرها: أنا متعبة, ويومي تسعل فيه الظلمة والبرد والمرض, أعطني القدرة حتى أنام, ثم أبتسمُ, فالقناديل تموت, وشعاع الشمس خيوط العنكبوت, قدمي تتلمس السلمة الأولى إليه, ويدي تتلمس الحاجز, كي لا أقع, بعدك مات القمر, يا نبية, يا قديسة: جائع قلبي من أكل الرياء, جائع.. حتى البكاء, يا نبية, يا قديسة: بعد كم إذا يأكل القلب, كي لا يموت من العياء!؟

تلاحق “لا” أحلامي, فأدعوها: يا ايزيس.. تشظى الوطن بالسخرية, والرعب يفرض العيش في ظل التراخي والاستهتار, والادعاء بأننا في حمى الرب, وكأن لدينا مناعة ربانية من الوباء, وكأننا يوسف محبوب يعقوب!؟ بينما المصابيح تخبئ عينيها بأهداب جناحيها عن كل الترهات التي تقع.. يا ايزيس، واسي القلب كما تواسين القمر كل شهر.. نصف شهر, واجمعي حطامي وحطام الوطن, علني أكون وإياه, أوزوريس يولد من جديد!.

تلاحق “لا” أحلامي, رغم أنها رحلت من كل المطارح, وتركت خلفها النشيج, فغرقنَا بالنشيج, ولكن وحده قلبي مع قلوب كثيرين من السوريين, بقي بعيداً عن مسرح الجريمة, متسربلاً بالطمأنينة, لم يعرف الظلمة, يطرق الأبواب, يصاحب الدروب, يلملم الفرح, ويتصفح الوجوه, كل الوجوه, ويرى في كل وجه على الجبهة, وجه “لا”, فيعتصمُ بالعروة الوثقى, ويبتسمُ.