أخبارصحيفة البعث

إسقاط “قيصر”.. يبدأ من حقول الجزيرة السورية

سنان حسن

لم تكن الإجراءات القسرية الأمريكية الأحادية الجانب على سورية، والتي اتخذت شكل عقوبات على الاقتصاد والمجتمع السوري، وليدة اللحظة، بل أن واشنطن تُشهر، منذ أربعة عقود تماماً، هذا السلاح غير الأخلاقي وغير الشرعي بوجه دمشق لدفعها نحو الامتثال لخياراتها في المنطقة وإخضاعها، ولكن لأن “ثمن المقاومة أقل بكثير من ثمن الاستسلام” تمكنت سورية من تجاوز كل هذه الحزم والعقوبات، والمحافظة على موقعها في الإقليم كلاعب رئيس وأساسي لا يمكن تجاوزه في كل الملفات. واليوم، ومع وضع ما يسمّى قانون “قيصر” قيد التنفيذ، ترتفع الأصوات التي تنعب قائلة إن هذه الحزمة من الإجراءات القسرية ستكون حاسمة وقاصمة لـ “النظام السياسي” في دمشق، لأنها هي الأقسى والأشمل، فلماذا هذا التهويل؟ هل لأن أمريكا موجودة فعلياً على الأرض السورية كقوة احتلال؟ أم أن ذلك يندرج في سياق الحرب الإعلامية القذرة التي بدأت منذ اندلاع الحرب على سورية، عام 2011؟

انتقائية

خضعت سورية للعقوبات الأمريكية منذ 1979، وذلك على خلفية تصنيفها ضمن قائمة ما تسميه واشنطن “الدول الراعية للإرهاب”، لتجدد العقوبات من قبل إدارة ريغان 1986، وقد شملت العقوبات حظر تصدير السلع أو التجهيزات التي تحتوي على مكوّن أمريكي بنسبة 10% فأكثر.

واستمرت العقوبات بأشكال أخرى في عهد إدارتي بوش الأب وكلينتون، وتجدّدت في ظل إدارة بوش الابن 2003، وذلك رداً على ما سمي “الدور السلبي” لسورية في العراق لدعمها المقاومة العراقية ضد القوات الأمريكية، وبتهمة “الوجود السوري غير الشرعي في لبنان، والاتهام باغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري”، وما لحقها من مجموعة قرارات تنفيذية نصّت على حظر الاستيراد والتصدير لسورية، ووقف أي تعاملات مالية مع المصرف التجاري السوري، إضافةً إلى حظر المساعدات الأمريكية لدمشق، وإغلاق المجال الجوي الأمريكي أمام الطائرات السورية، وتجميد ممتلكات عدد من الأفراد والشركات السورية في أمريكا. ولم تخرج إدارة أوباما عن سياسة العقوبات، بل مدّدتها في أكثر من مناسبة (2009، 2010).

عام التحوّل

شكلت بداية الحرب الإرهابية على سورية نقطة تحوّل في العقوبات المفروضة، من حيث نوعها وكذلك عدد المنخرطين فيها، فعقوبات ما قبل 2011 كانت انتقائية وطبيعتها محدودة من حيث نطاق الجهات المستهدفة بها، ولكن بعد هذا التاريخ اتجهت العقوبات الأمريكية، وخاصة في عامي 2016 و2017، اتجاهاً تصاعدياً، فاتّسع نطاق الجهات المستهدفة بها. وشملت هذه العقوبات شخصيات أمنية وعسكرية وسياسية وكيانات حكومية، كما طالت قطاعي النفط والغاز، إضافةً إلى شمولها شركات خاصة ورجال أعمال، واستمرت إدارة ترامب بتأكيد العقوبات السابقة، وفرض أخرى، وذلك على خلفية اتهام الحكومة السورية بالمسؤولية عن هجوم خان شيخون الكيماوي، في نيسان2017، ليكون ما يسمى “قانون قيصر”، الذي بدأ العمل به في السابع عشر من حزيران 2020، الأوسع في تاريخ العقوبات.. ولكن، لماذا وصف بالأخطر؟

قوة احتلال

لاشك أن العقوبات الأمريكية على مدى العقود الفائتة أضرت بالاقتصاد الوطني السوري وحرمته -ومازالت – من الكثير من التجهيزات والتقنيات تحت ذرائع واهية، ولكنها، منذ 22 أيلول 2014، بدأت تأخذ منحى آخر بسبب وجود القوات الأمريكية المباشر كقوة احتلال في الشرق السوري، ودعمها العلني والمباشر للمجموعات والتنظيمات الإرهابية، وفي مقدمتها “داعش” الإرهابية، وغيرها من الميليشيات الانفصالية، حيث تمارس واشنطن من خلال هؤلاء كل أنواع الضغط على الحكومة السورية، سواء بحرمانها من الاستفادة من آبار النفط والغاز، أو من خلال حرق المحاصيل الزراعية ومنع المواطنين من تسليم مواسمهم للدولة، أو من خلال التلاعب بأسعار صرف العملة الوطنية وتجنيد المرتزقة للقيام بذلك، والأخطر قطع الطريق البرية بين سورية والعراق من خلال وجود قواتها في قاعدة التنف غير الشرعية، وبالتالي إغلاق نافذة مهمة للاقتصاد السوري على السوق العراقية.. أكثر من ذلك، مارس المسؤولون الأمريكيون الموجودون في لبنان والأردن ترهيباً غير مسبوق بحق أي شركة ورجل أعمال يريدان تنفيذ أي عمل في سورية والتهديد بسيف العقوبات فوراً.

إضافة إلى ذلك، عمدت الإدارة الأمريكية، بالتعاون مع أدواتها في المنطقة، إلى التهويل الإعلامي الكبير باستخدام منصات التواصل الاجتماعي، وغيرها من الميديا التي تأتمر بأمرها، للقول إنه، مع بدء تنفيذ العقوبات، ستنهار الدولة السورية؛ وبكلمات وزير الخارجية وليد المعلم: “حاولوا تسويقه باعتباره الضربة القاضية”، كما عملوا على محاولة يائسة جديدة من خلال زج رموز البلد في لعبة العقوبات لإحداث أثر نفسي في الشارع وإحداث الصدمة التي تمكّنهم من تحقيق مرادهم.. ولكن لم يحدث شيء من ذلك؟

مقاومة شعبية

لقد استطاعت سورية عبر كل هذه المحطات تجاوز العقوبات والتأقلم معها، وهي في المرحلة الأولى، إبان أحداث الإخوان المجرمين عام 1981، تمكّنت بعد سنوات عجاف من تحقيق أمن غذائي غير مسبوق لدولة تقع تحت حصار وعقوبات ظالمة وغير شرعية، والأهم المحافظة على دورها الإقليمي والدولي الذي لا يمكن لأحد تجاوزه. واليوم يتوهمون من جديدأن هذه الإجراءات الاقتصادية الأحادية والقسرية، مع احتلالهم لبعض من الجغرافيا السورية، ستجعلهم قادرين على كسر القرار السوري المستقل وتدمير سيادته الوطنية. وكما عبرت دمشق سابقاً محنة العقوبات، هي قادرة اليوم على تجاوزها بتعاضد أبنائها وتكاتفهم مع قيادتهم وجيشهم، وبالتعاون مع الحلفاء والأصدقاء الذين أعلنوا صراحة رفضهم “قيصر” وإجراءاته الظالمة بحق الشعب السوري، ولكن طريق إفشال هذه العقوبات يكون من بوابة دحر المحتل الأمريكي والتركي عن أرض سورية، فوجودهم سيزيد من معاناتها، ودحرهم يعني أن هذه الإجراءات – كسابقاتها – لن يكون لها أي مفعول حقيقي على أرض الواقع، فهل تسقط المقاومة الشعبية في الجزيرة السورية وسواها “قيصر”، ومن وراءه، وتعلن الانتصار النهائي في الحرب الإرهابية التي تشن على سورية منذ تسع سنوات؟