ثقافةصحيفة البعث

“الماء والتراب في التراث” انتقاء وتداخل بأسلوب سردي

الماء العنصر الأساسي في الحياة، وكان موطن تشكل الحضارات القديمة وتعاقبها، ومحور كتاب “الماء والتراب في التراث” لمؤلفه محمد علي حبش الصادر عن وزارة التعليم العالي- جامعة دمشق – الأدب العلمي. وفي صفحاته مضى الكاتب حبش مع السرد المائي والترابي المستمد من الكتب والرسائل والمخطوطات، التي ألّفها العلماء العرب وغدت مدونات في التراث العلمي العربي، فاختار اثني عشر عالماً ابتداءً من القرن الثامن حتى مطلع السادس عشر الميلادي، ولم يكن السرد يقتصر على عنصري الحياة الماء والتراب، إذ تضمن سرديات عن الحضارات والأقوام والتراجم لا تخلو من الاستطراد، وأضاف بعض الرسومات التوضيحية وصور الوثائق من الكتب والرسائل، فشد القارئ بتجاوز فنية التجميع إلى الانتقاء والاستنباط، كما يعد وثيقة للعلماء الذين درسوا أحوال الماء والتراب.

ويأمل حبش أن يتابع عناصر الحياة بجزء ثان لعنصري “الهواء والنار”، وقد استهل الكتاب بمقدمته التي أوضحت ارتباط الحضارات بالماء مثل حضارة مأرب التي قامت على سد مأرب، وحضارة أهرامات مصر التي قامت على مياه النيل، وحضارة تدمر والواحات وصولاً إلى البابليين والأنباط الذين بنوا السدود كجزء من نظم الري.

 ألفاظ البئر

انطلق من كتاب “البئر” لابن الأعرابي- 767-845م، ويعد من الرسائل التي كانت نواة للمعاجم العربية الكبيرة فيما بعد، إذ جمع الكتاب مجموعة من الألفاظ التي توصف بها الآبار في حفرها واستخراج المياه وقلتها وكثرتها مثل “بئر إنشاط” إذا خرج دلوها بجذبة واحدة، وتابع تفصيلات أجزاء البئر ولم يغفل حتى أسماء الآلات.

عضة البرد

ابن وحشية 930م في كتابه “الفلاحة النبطية” الذي نقله من الكلدانيين إلى العربية في أوائل القرن العاشر الميلادي، ويؤشر إلى الحياة الفكرية والفلسفية والعلمية التي توصلت إليها الحضارة الآرامية العربية في مرحلة مبكرة من التاريخ. كتب أبو بكر الرازي 865-932م ثلاث رسائل الأولى بخصوصية المياه بعنوان “في الماء المبرد بالثلج والمبرد على الثلج”، والثانية “في العلة التي يزعم جهّال الأطباء أن الثلج يعطش” والثالثة يعالج فيها ما يسمى بعضة البرد “مقالة في العلة التي لها يحرق الثلج ويقرح”.

غذاء العروق

أما الثعالبي في كتابه “فقه اللغة وأسرار العربية” فاعتمد على الاستعارة “دبت عقارب البرد” ومنها شاعت المقولة بالعامية “لسعة برد”، وخص ابن سينا 980-1035م الماء في كتابه “القانون في الطب” فحلل أحوال المياه “الماء جوهر يعين في تسييل الغذاء وترقيقه وبذرقته نافذاً إلى العروق ونافذاً إلى المخارج لايستغنى عن معونته في تمام أمر الغذاء”.

المياه الجوفية

وناقش ابن سينا مسائل كثيرة تخص الماء وتوقف عند الفرق بين مياه الآبار ومياه العيون “أما مياه الآبار والقني بالقياس إلى مياه العيون فرديئة، وذلك لأنها مياه محتقنة مخالطة للأرضيات مدة طويلة”.

ويصنف ابن الحسن الكرجي 1019م المياه الجوفية في كتابه “أنباط المياه الخفية” وهو أشبه بموسوعة هندسية عملية فنية في دراسة المياه الجوفية واستثمارها بالاعتماد على تجارب عملية وأسس نظرية ومحاكمة رياضية، ويصف الماء الساكن بقوله” هو ماء يجري في جوف الأرض”.

النباتات والماء

ومن مدوّنات الكتاب التعريف بالعلماء مثل العالم ابن بصال 1035-1075م الذي ولد وعاش في طليطلة وسمي بابن البصال نسبة إلى عمله في زراعة البصل، وبناء على تجاربه قارن بين مختلف الأصناف الزراعية ودرس خصائصها النباتية وزرع التين والرمان في أي وقت من السنة واهتم بزراعة الرياحين مثل الورد والبنفسج والسوسن، وذكر الكاتب بأن الخليفة المأمون جلب له النباتات من جميع أنحاء العالم لغرسها في حديقته بستان الناعورة. وقد ميز بين علم الصيدلة المعتمد على الأعشاب وعلم الفلاحة في كتابه “الفلاحة” وأوضح بين صفحاته طرق الاستدلال على الماء وقربه وقلته وكثرته” حيث كان هذا الحشيش كله أو بعضه دائم نباته قوي غض كثر ورقه ملتف دليل على كثرة الماء”.

صناعة البناء

وأفرد الكاتب صفحات من الكتاب عن ابن خلدون 808- 1406م، إذ تحدث في مقدمته عن التراب وخصه في فصل صناعة البناء، وأشار إلى أنه عنصر أساسي في البناء بما أطلق عليه صنعة البناء “أول صنائع العمران الحضاري وأقدمها، وهي معرفة العمل في اتخاذ البيوت والمنازل للسكن والمأوى للأبدان” كما تطرق ابن خلدون إلى طرق استخدام التراب والحجارة في البيوت وفق اختلاف المدن، وما يتعارفون عليه ويناسب مزاجهم واختلاف أحوالهم في الغنى والفقر، وأوضح الفرق من خلال النماذج التي وصفها، فمنها القصور ومنها الدويرة والبيت لنفسه وسكنه وولده، في حين يبالغ الملوك “بإتقان الأوضاع وعلو الأجرام مع الإحكام تبلغ الصناعة مبالغها” وتابع ابن خلدون بتفصيلات تنوع الحجارة مثل الحجارة المنجدة أو الآجر أو بالطين والكلس ومن ثم إدخال الخشب إلى السقف والجدران.

التراب الصيني

ويدوّن الكاتب ماكتب الرحالة ابن بطوطة الذي جاب الأرض شرقاً وغرباً 1304-1377م، عن التراب في كتابه “تحفة النظّار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار” فيصف التراب الذي يوقده الصينيون بدلاً من الفحم” وهو أشد حرارة من نار الفحم، وإذا صار رماداً عجنوه بالماء ويبسوه وطبخوا به ثانية، ولا يزالون يفعلون به كذلك إلى أن يتلاشى، ومن هذا التراب يصنعون أواني الفخار الصيني”.

ملده شويكاني