مجلة البعث الأسبوعية

نـقـوش .. حـكـايـة قـط

“البعث الأسبوعية” محمد كنايسي

أخيرا جاءت الفرصة التي انتظرها طويلا، فقد خرج أفراد الأسرة كلهم، وأغلقوا باب الشقة الأرضية الفاخرة كالعادة، إلا أنهم نسوا هذه المرة إغلاق الباب الذي يؤدي إلى حديقتها، مما مكنه من الدخول إلى هذه الأخيرة، ثم تسلق سورها، وبقفزة واحدة وجد نفسه في الشارع..

كان قطا محظوظا أراد له القدر أن يعيش في هذا الحي الراقي بين أفراد أسرة غنية أحبته ودللته كما يدلل الأطفال الصغار، فكان يحصل على أفضل الوجبات المعلبة، وعلى أغلى أنواع الصابون والشامبو لحمامه اليومي، كما كان يتمتع بنزهة أسبوعية يخرج إليها محمولا في قفص ليكتشف العالم الخارجي بعض الوقت، ثم يعود إلى الشقة حيث يستلقي على السجادة العجمية كأمير سعيد، رغم أن هذه النزهات لم تكن في الحقيقة تشبع فضوله، وكان في أعماقه يحلم بالتحرر ذات يوم من القفص والتجول حرا في الخارج..

لذلك عندما جاءت الفرصة لم يتردد، رغم شعوره ببعض الخوف، في اقتناصها، فقد كان فضوله أقوى بكثير من شعوره بخطر المغامرة.. وهكذا وجد القط الجميل نفسه وجها لوجه مع العالم الذي طالما أراد أن يلمسه ويشمه ويعرفه بشكل مباشر وليس من خلال قفص..

مشى على الرصيف ملتصقا بالجدران ليتفادى الاصطدام بالمشاة، وبدا للوهلة الأولى وكأنه فقد القدرة على المشي فقد كان يتعثر حينا ويتوقف فجأة كلما مرت سيارة مسرعة، أو سمع صوت زمور قوي، ثم يعود إلى المشي ببطء محاذرا الاقتراب من الشارع حيث السيارات المخيفة ..

وما أن وصل إلى إحدى الحدائق حتى تنفس الصعداء، ففي عالم العشب والشجر والعصافير وبرك الماء والإوز والكراسي الخشبية شعر بالأنس، وشيئا فشيئا تخلص من آثار الخوف، وعاد للمشي على الرصيف وهو أكثر شعورا بالثقة والأمان..

اجتذبه عالم من الروائح المختلفة التي كانت تنبعث من المحلات الفخمة. ولم ينتبه وهو يمشي مستنشقا هواء الحرية أنه أخذ يبتعد كثيرا عن حيه، وأنه في غمرة اكتشافه المباشر للعالم الخارجي قد أصبح خارج الحي الراقي. وعندما تفطن إلى ذلك كان قد أضاع الطريق تماما ولم يعد يعرف كيف يعود..

هام على وجهه ساعات طويلة وهو لايعرف إلى أين يمضي، واضطره العطش إلى الشرب من بركة ماء صغيرة في إحدى الطرق المحفرة، وكانت تلك أول مرة يشرب فيها ماء كريه الطعم. ثم أكمل السير وقد بدأ يشعر بالتعب والجوع، كما بدأ يشعر بالخوف والندم وهو يتوغل دون أن يدري في مناطق بائسة لم تعد فيها أرصفة للمشاة ولا حدائق للنزهة ولا شوارع نظيفة ولا محلات كبيرة بواجهات لماعة ولا بشر أنيقون كاللذين عاش بينهم..

ولأول مرة رأى الحاويات تفيض بالقمامة، ومياه الصرف الصحي تجري في الشوارع. شعر بالغثيان، وحاول البحث عن زاوية ما تقيه حرارة شمس الظهيرة عندما وجد نفسه فجأة محاطا بمجموعة من القطط السوداء البشعة بما فيها بيضاء اللون لأن لونها غيره الدخان والعيش في حاويات القمامة..

سبق له أن رأى قططا تشبهه، أما هذه فبدت له غريبة ومخيفة وهي مكشرة عن أنيابها وكأنها تستعد للهجوم عليه. وبالكاد تمكن من إطلاق مواء خافت وكأنه يطلب الرحمة، لكن مواءه ذهب أدراج الرياح، وتقدمت القطط نحوه وهمت بالانقضاض عليه عندما ارتفع فجأة صوت مواء مخيف أرعب الجميع فتوقف كل في مكانه.. كان سيد المجموعة قد وصل وهو قط مفتول العضلات بشع المنظر خسر إحدى عينيه في معركة ضارية من أجل بقايا فروج مشوي وجدته القطط الجائعة في إحدى الحاويات، كما خسر نصف ذنبه ذات ليلة شتائية في إحدى المعارك التي خاضها من أجل قطة ساخنة وانتصر فيها أيضا على غرمائه، مما أجبر الجميع على الاعتراف به زعيما بلا منازع..

تقدم الزعيم، وجعله مشهد القط الوافد من عالم مختلف وهو يرتجف من الرعب، يشعر بالعطف عليه، فأمر الجميع بالتفرق ففعلوا مكرهين، ثم اقترب من القط وسأله: ما الذي أتى بك إلى هنا. قال: لقد أضعت طريقي ولم أستطع العودة إلى البيت الذي خرجت منه. تفحصه بنظرة ثاقبة وقال: اسمع أنت لا تنتمي إلى هذا المكان ويجب أن تغادره فورا وإلا مزقتك القطط إربا إربا وافترستك دون رحمة، فانج بجلدك وحاول العثور على الحي الذي جئت منه لأن بقاءك هنا يعني الموت المحتوم . أجاب: ولكني قط مثلكم حتى وإن بدت علي آثار النعمة فلماذا أعامل هكذا وأنا لم أفعل ما يسيء لكم؟ رد عليه الزعيم بحزم: أنت لست منا، فعالمك غير عالمنا، فعد له، واحمد الله أني تدخلت في الوقت المناسب لإنقاذك، ولا تكرر القول إنك منا أبدا، فلونك ليس لوننا وطعامك ليس طعامنا، وشرابك ليس شرابنا، وباختصار أنت لا تنتمي إلى نوعنا ولا شيء يجمعنا بك، وليس أمامك الآن إلا الابتعاد من هنا وإلا فسأكون أول مفترسيك..