مجلة البعث الأسبوعية

بمناسبة مئوية ميلاده.. رسول حمزاتوف رسول الشعر إلى العالم

البعث الأسبوعية- أمينة عباس

تخليداً لذكرى الشاعر السوفييتي الشهير رسول حمزاتوف الذي تحتفل روسيا بمئوية ميلاده هذا العام أطلق البنك المركزي الروسي عملة فضية جديدة على وجهها الأمامي نُقِشَت صورة وجهه، وعلى وجهها الخلفي نُقِشت صور طيور اللقلق إشارة إلى قصيدته الشهيرة “اللقالق” التي ترمز للحداد والذاكرة الحية، كما خصصت الحكومتان الروسية والداغستانية نحو 110 ملايين دولار لتمويل المشاريع التي تُنفّذ بهذه المناسبة كترميم المباني والطرق في جادة رسول حمزاتوف في محج قلعة موطن الشاعر وإنشاء مدرسة فيها، وغيرها من المشاريع التذكارية، وتم قبل ذلك إطلاق اسمه على سفينة تابعة للاستخبارات الروسية، وكان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وبمناسبة مرور 80 عاماً على ميلاده عام 2003 قد هنأه قائلاً له: “نحبّك على إخلاصك العظيم ولأنك تعلمنا القيم الإنسانية الحقيقية كالصداقة والوفاء والصدق.. شكراً لك على إبداعك وجهودك التنويرية وعلى شجاعتك ووطنيتك” كما بيّن فيها أن “رسول حمزاتوف قدم تاريخ موطنه وتراثه الثري إلى العالم، وتنبض مؤلفاته بالحياة وتدعو إلى التسامح والعدل وحب الوطن وهو ما يجعل الناس بحاجة إلى إبداعاته والاهتمام بأشعاره وإعادة قراءتها”.

وحينها لم يكتفِ الرئيس بوتين بإرسال برقية تهنئة إلى الشاعر وإنما أرسل طائرة خاصة نقلته إلى منتجع سوتشي حيث قلّده أكبر الأوسمة الروسية له، كما كرّمته روسيا عام 2013 بإقامة نصب تذكاري له في بوليفار ياؤزسكي بمناسبة الذكرى التسعين لمولده، وحين رفع بوتين الستار عن التمثال قال  إنه يعرفه شخصياً وإنه إنسان رائع ببساطة وقدوة يحتذى بها في داغستان وروسيا الاتحادية، وهو ابن عظيم من أبناء روسيا، وكلماته تخاطب الجميع اليوم، لافتاً إلى ضرورة ألا ينسى الإنسان معتقده وانتماءه، لذلك فالاحتفاء بهذا الشاعر إقرار بالموهبة الكبيرة التي يتمتع بها، وبشاعريته، ولأنه شخصية كبيرة في التاريخ الثقافي والروحي والاجتماعي والسياسي لبلده بأبعاد أدبه المنفتح على الإرث الثقافي العربي الإسلامي وتقاليد الآداب الروسية متعددة القوميات، فارتقى ليصنف نتاجه الشعري والنثري مع كبار الشعراء في العالم أمثال بابلو نيرودا وبول إلوار وأنّا أخماتوفا والمتنبي وغارسيا لوركا وغيرهم، مع محافظته على نكهته القومية المطعمة بروح إنسانية وفنية عالية، وكانت تلك هي السمة الأهم من سمات شاعريته التي تكمن أهميتها في قدرة الشاعر الفائقة على التعبير عن تراث وحكمة شعبه لأن الشاعر عنده كما قال في كتابه “داغستان بلدي” هو رسول الشعب وحامل كلمته المقدسة، وأهميته تكمن في أن يصوغ الحكمة التي عجنها شعبه.

داغستان بلدي

كان رسول حمزاتوف أحد أبرز الشعراء خلال الحقبة السوفييتية، وقد وصل في تلك الحقبة إلى أعلى المناصب في الدولة، فكان عضواً في مجلس السوفييت الأعلى، لكنه كان شاعراً وأديباً بالدرجة الأولى وشاعر داغستان الأول الذي لم ينفصل الإبداع لديه عن العمل السياسي-الاجتماعي.. وبالرغم من نشاطاته السياسية الاجتماعية أثناء وجود الاتحاد السوفييتي إلا أنه كان ضد انهياره، وقد ترك سقوط التجربة السوفييتية أثراً بالغاً عليه كشاعر وسياسي، ورأى أن أسوأ نتائج انهيار الاتحاد السوفييتي هو النزاعات القومية التي لم تسلم منها لا روسيا ولا أية دولة أخرى، لذا فقد حظي بجماهيرية واسعة وكبيرة حيث يقول د.إبراهيم استنبولي في مقدمة كتابه “قلبي في الجبال” الصادر عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق احتفاءً بالذكرى المئوية لمولد حمزاتوف: “حين كان العالم يتعطَّش للكلمة الشعرية في الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين كان الناس يأتون إلى أمسياته الشعرية كما يذهبون اليوم لحضور مباراة بكرة القدم.. كانت الصالات الكبيرة الضخمة تكتظُّ بالناس عندما كان رسول حمزاتوف يقرأ أشعاره، وهذا بالطبع كان يعود للشعبية غير العادية للكلمة الشعرية عنده، تلك الكلمة التي كانت البلاد بحاجة إليها وكانت تنتظرها” لذلك لم يعشق حمزاتوف أرضاً كما عشق أرض بلاده الصغيرة الجبلية التي فتحها العرب في القرن السابع وظلت الثقافة العربية تسودها نحو ألف عام.. يقول في إحدى قصائده عن بلده التي لا يزيد تعداد سكانها عن مليوني نسمة: “نجوم كثيرة، وقمر واحد.. بلاد كثيرة ووطن واحد” وقد عاش كشاعر يغنّي لبلده داغستان متغزلاً بأرضها وجبالها: “الشعراء ليسوا طيوراً مهاجرة، والشعر دون التربة الأم شجرة بلا جذور وطائر دون عش.. أودّ أن أضيف شيئاً ولو سطراً واحداً إلى كنز الشعر في بلادي.. أود أن أهب الجميع أناشيد أمي عن بيتي الصخري وقريتي تسادا حيث ولدت، عن الجبال والشطآن”.. وفي كتابه “داغستان بلدي” ذي الشهرة الواسعة تحدث عن تجربته في حبّ بلاده الملأى بالمعارك والأغنيات، وتغزَّل بطبيعتها الساحرة وبجبالها ووديانها وأنهارها ونسائها الجبليات، وروى الحكايات عن بطولات أهلها وعشقهم للأرض والحياة، فكانت داغستان أباه وأمه ومهده حيث ولد وترعرع وأحبّ.. يقول: “داغستان يا ملحمتي، كيف لي ألا أصلّي من أجلك” وفي آخر رسالة تركها لأهل بلده قال: “أيها الداغستانيون! احفظوا كرامة داغستان والنساء الجميلات”! كما أكد في كتابه: “لا أريد أن أربط حبي لوطني وأعقله كما يربط أو يعقل فرساً قام بجهد طيب، ويجب الآن أن يرعى في مرج فسيح أخضر.. إني أنزع عنه لجامه وأُربّت على عنقه وأقول له: اذهب وارع واستجمع قواك، ففي شعوري بالوطن هناك شيء ما طيب وهادئ كما في الفرس التي ترعى في الهواء الطلق وتختال سعيدة فرحة.

مع فلسطين

عبّر رسول حمزاتوف عن معارضته للمشروع الصهيوني على أرض فلسطين، وهو الذي كان صديقاً لكل قوى الخير والعدالة في العالم، فكان صديــقاً للعرب وجميع المظلومين وكل المحبين للخير والعدل والتسامح، لذلك كان منحازاً بعقله وعاطفته إلى عدالة القضية الفلسطينية، وحين طلب منه ذات مرة أن يشارك في أمسية شعرية في قاعة القدس في موسكو لم يعتذر رغم وجوده في المستشفى وشارك في الأمسية واندمج في قصيدة له حتى البكاء، وكان يردد دوماً أن الشاعر الذي لا يجيد إلا الشعر محدود الثقافة ومحدود في فهم فلسفة الشعر وكثافة أهدافه، مبيناً أن من مهمّات الشاعر أن يكون مفكّراً ومسؤولاً وجدّياً، ولكن دائماً على طريقته وبأسلوبه في إعادة بناء تصوّر جديد للإنسان والعالم، ولكون الشاعر برأيه معتاد على الإقامة بين المتناقضات والمفارقات كان يؤمن أن بإمكانه أن يناقش كل الأفكار التي تطرح أمامه، كبيرها وصغيرها، معقّدها وبسيطها مع إشارته إلى أنه  كان وسيظل ضد مبدأ حياد الشاعر أو المفكر إزاء قضايا الإنسان وحقوقه، مع قناعته أن العلاقة بين الشاعر والسياسة هي العلاقة التي ينبغي للشاعر أن يظلّ حرّاً إزاءها، ولكن ليس من موقع النأي بالنفس عن مشكلاتها لأن السياسة برأيه تتدخّل في كل مسارات وجودنا لا لشيء إلا لتستقطب هذا الكلّ وتهندّسه وتمنهجه وفق خططها ومشروعاتها الآنية والمستقبلية.. من هنا كان يرى أن  من مسؤولية الشاعر وواجبه أن يكون مقوّماً للسياسة وناقداً لها، وبالمقابل عليه أن يعي باستمرار أنه شاعر، وأن الشعر هو دوماً غذاء كينونته ونار نفسه وهدف عينه وطابع صوته، ومجرى دمه وروحه: “أرى نفسي مسؤولاً عن كرتنا الأرضية بأسرها وعن مصير كل إنسان ومصير البشرية جمعاء.. اليوم لا يجوز لي ولا لأحد منا أن نكمن في قوقعتنا، إذ إن قريتي والعالم كله اليوم قد أصبحا وحدة عضوية لا تنفصم.. يقال إنه لا بد من موقد في وسط العالم حتى تصل أشعته ونيرانه إلى كل زوايا الأرض مهما كانت بعيدة، وإن كنا عاجزين عن تغيير موقف الشمس فإننا قادرون على إشعال ذلك الموقد للنور والدفء، موقد الشعر والموسيقى ليكون وليد فننا موضوع عنايتنا المشتركة.. على ذلك الموقد أن يشتعل إلى الأبد وأن يبقى في وسط العالم على ملتقى جميع الأحداث والعواصف والحركات والصراعات.. من هنا كان الإنسان هو الشخصية الأبرز في قصائده بما يحيا به من هموم دنيوية وجودية، فكان يغوص إلى أعماق الإنسان الداغستاني ليتغنى به ومعه بنغمات مطعمة بالفلسفة والإحساس بالكون.. يقول: “نحن لا نملك إلا حياة واحدة، ولو كان لنا أكثر من حياة لأمكنني أن أزرع حبي حتى يعم الجميع.. يكفيني أن يظل حبي حيًّا في كل قصائدي.. لم يعد أمامي الكثير من الوقت لأكتب عن التفاهات”.

ميداس الشعر

وصف أحد النقاد رسول حمزاتوف بأنه ميداس الشعر الذي يعيد إنتاج الأسطورة ليصبح كل ما تلامسه أصابعه شعراً وليس ذهباً، فالنثر الذي سبق شعر رسول حمزاتوف إلى بعض اللغات بعد ترجمة كتابه “داغستان بلدي” مشحون بالشعر وفيه من التوتر العاطفي والحكمة ما يدرجه باستحقاق في ملكوت القصيدة، وحين سئل رسول حمزتواف عن المنابع التي نهل منها وعن الأسس التراثية التي ألهمته وأثرت فيه أجاب: “ينبغي أن يكون لكل أديب ثلاثة معلمين: أولا الطبيعة لأن أهم شيء أن الطبيعة ذكية، فهي إن لم تمنح الإنسان ذكاء فإنه سيعيش في قفص الحمق. إن الشاعر يفهم لغة الجبال والأنهار والنجوم، أما المعلم الثاني فهو القرون التي مضت أي التاريخ الوطني، والمعلم الثالث هو قادة الفكر والعباقرة في كل مكان وزمان” وكان رسول حمزاتوف لا يعتقد أن الشاعر الحقيقي يجب أن يمر بالمحطات أو بالمراحل فهو إمّا شاعر حقيقي أو شاعر مزيف أو أنه يعيش خارج أرض الشعر وإن أعظمُ الشعر ذاك الذي يشقُّ الممراتِ بين قلبٍ وآلاف القلوب” لذلك كانت موضوعات المجتمع والفرد والدولة والإنسان من الموضوعات الملحة التي لا تغيب عن ذهنه، ويرى نقاد كثيرون أن شعره يشكل كتاباً يجمع بين دفتيه ثنائيات تكشف جوهر الإنسان، الحكمة، الشجاعة، الحب، الكراهية، الألم، الفرح، الدعاء، العذاب، الزيف، الحقيقة، الأبدية.

 

شاعر الشعب

ولد حمزاتوف عام 1923 في قرية تسادا الصغيرة التابعة لمنطقة خونزاخ القائمة على قمة جبل بداغستان وكان والده الشاعر والإمام الداغستاني حمزة من أوائل الشعراء الداغستانيين، وبدأ بنظم الشعر وهو في سن التاسعة وصدر ديوانه الأول عام 1943 وأصبح عضواً في اتحاد كتّاب الاتحاد السوفييتي عندما بلغ العشرين من عمره وفي عام 1950 أنهى دراسته في  معهد جوركى للآداب في موسكو ، منح لقب شاعر الشعب في داغستان عام 1959 ثم منح جائزة لينين، وفي العام 1986 حصل على جائزة اللوتس من منظمة كتّاب آسيا وإفريقيا وجائزة نهرو ووسام لينين أربع مرات و جائزة أفضل شاعر في القرن العشرين، ومن أشهر كتبه ودواوينه: قلبي يسكن الجبال، النجوم السامية، حافظوا على الأصدقاء، الجرانيق، عجلة الحياة، أيام القوقاز العاصفة، في قيظ الظهيرة، حاكموني حسب قانون الحب” وغيرها من الأعمال الخالدة، كما قام بترجمة قصائد الشعراء الروس الكبار، وقبل أن يموت بأيام قليلة قال: “حياتي مسودة كنت أتمنى لو أن لدي الوقت لتصحيحها ” ورحل عام 2003 عن عمر يناهز الثمانين عاماً، وكان يبدو كما قال الباحث محمد فاروق الإمام شخصاً لا يرحل، أو لا يجوز أن يرحل، أو لا يصحّ أن يرحل، لأن رحيله يحدث خللاً شديداً في موازين الخير والشر في العالم”.