مجلة البعث الأسبوعية

دين الحب والعمل

“البعث الأسبوعية” ــ رامز حاج حسين

(ما أبعد ما يصل إليه ضوء هذه الشمعة الصغيرة، كذلك يشرق عمل الخير في عالم بغيض)

وليم شكسبير

في عالم محفوف بالخطر والظلام والسوداوية، يصبح من الضروري تلمس طريق النور في كل درب، وبكل السبل، فالخطر يفرز مصطلحات مدمرة تستهدف في موجة صدماتها الأولى عقول وأفئدة الأطفال والشباب.

المطلوب – في هكذا أوقات – أن ترفع سواعد البناء والفكر والثقافة أعمدة الصروح الحضارية؛ وقد يبدأ الإعمار في حالات كثيرة من خطط تنموية تبنى على آمال في إشادة الصروح والتباهي بعمارة البنيان، وكل عمل تنموي يأتي بعد محن وأزمات وجودية وحروب، لا يرعى جماجم وأفئدة الصغار، فهو عمل ناقص غير مكتمل، مكتوب عليه الفشل بعد حين، فالمستقبل الذي ننشده يكون لأجل هؤلاء، وبهم نسوّره بالنور والأمل.

 

قصة أمل حقيقي

أمضى تسع سنوات جديدة من العمل المتواصل استطاع بعدها أن يحمل عشرة محركات صُنعت في اليابان، حملها إلى قصر الإمبراطور الياباني، وقال: “الآن نجحت!!”. عندما استمع إليها الإمبراطور الياباني، وهي تعمل، تَهلّل وجهه فرحاً، وقال مغتبطاً جذلاً: “هذه أجمل معزوفة سمعتها في حياتي، صوت محركات يابانية الصّنع، مئة بالمئة”.

إنها قصة شاب اسمه تاكيو اوساهيرا، خرج من اليابان مسافراً مع بعثةٍ مكونة من مجموعة من رفاقه الطلاب المتميزين متجهين إلى ألمانيا، بعد الحرب العالمية الثانية، وكان حلمه أن ينجح في صناعة أول محرك كامل الصّنع يحمل شعار “صُنع في اليابان”.

بدأ يدرس بجد، وعزيمة أكثر، وتصميم منقطع النظير، ومضت السنوات بسرعة. كان أساتذته الألمان يوحون إليه بأن “نجاحك الحقيقي هو من خلال حصولك على شهادة الدكتوراه في هندسة الميكانيكا”، وكان يقاوم تلك الفكرة، ويعرف أن نجاحه الحقيقي هو أن يتمكن من صناعة محرك! وبعد أن أنهى دراسته، وجد نفسه عاجزاً عن معرفة ذلك اللغز.. ينظر إلى المحرك، وما زال يراه أمراً مذهلاً في صنعه، غامضاً في تركيبه، لا يستطيع أن يفكِّك رموزه! توالت خيباته مراراً وتكراراً، حتى استطاع الحصول على كتيب لتصنيع المحركات، واشترى محركاً من مصروفه الشخصي، وراح يفككه قطعة قطعة، ليعيد تركيبه، ويقوم بتشغيله بنفسه؛ ولما نجح عرض الإنجاز على معلمه الذي طلب منه إصلاح محرك معطل، ليفهم – الآن – آلية العمل الخاصة بتصنيع وعمل المحركات.

مثل هذه القصص كفيلة بإلهام الأطفال والشباب واليافعين لبناء القدوة والرمز والأنموذج الواجب تقليده في حياتهم، ولماذا نتشدق بمنح وهبات غيرنا، ولدينا جوليا دومنا، العنقاء السورية ذات الحكاية الملهمة، حيث يقول الشاعر اللاتيني جيوفينال عنها: “لقد فاض نهر العاصي وغطى نهر التيبر”، هي ابنة الكاهن باسيان، الكاهن الأعظم في معبد إله الجبل في حمص. كانت تتمتع بذكاء وثقافة واسعة، وتزوجت من سبتيموس عام 175 ميلادية؛ وكان من كبار الموظفين في روما، ثم أصبح إمبراطوراً على روما عام 211، وافتتحت جوليا دومنا عهد الأباطرة السوريين الذين حكموا روما خلال عدة عقود، بدءاً من ابنها كركلا، وصولاً إلى فيليب العربي.

اليوم، حين نريد الرفعة، نقدر أن نزرع الإرادة والتصميم في خلد أطفالنا منذ نعومة أظفارهم، ونعلمهم كيف يكونوا جوليا دومنا، أو لك أن تعدد كل من مروا في هذه الدنيا عظماء، وقد خرجوا من رحم هذه الأرض المعطاءة، لكي يقتدي بهم أطفالنا، ومن ثم لكي “يلحقوا الدنيا ببستان هشام” حين يكبرون.

 

منحة أم محنة؟

لم يكن على بروميثيوس أن يغرم بالبشر، ويسرق لأجلهم النار من مجمع آلهة الأولمب المقدس! أكان عليه أن يكون لصاً لأجلنا، فيسرق فنون العمارة والبناء والهندسة وطقوس الحب، وكل ما أعطاه للبشر من طقوس ستغدو، فيما بعد، أحلاماً لمبدعيهم، وآمالاً لمجدهم، وبعضها يصبح نار عذاب، وتوق للنيل في كل المحافل.

من أتون النار نفسها، برمزيتها، أو واقعيتها المؤلمة والحارقة، سننهض يا وريث الآلهة! سننهض يا بروميثيوس، لنعمرها، ونعيد زراعة سفوحها وسهولها، ونورثها خضراء نقية، كما أورثنا إياها أجدادنا الأوائل! وما هذا الحريق إلا تراب خصب لتفريخ الفينيق فينا، وفي وجدان أطفالنا من جديد؛ ولهذا متطلباته وحيثياته التي تبدأ – كما فعل مهاتير محمد، صاحب نهضة ماليزيا – من سلك التربية والثقافة والتعليم. أعيدوا صياغة دساتير الأمة السورية (الكتب المدرسية)، لتحمل في طياتها كل الحب والألق، والعمل الجليل، وكل إرادة الحياة النبيلة وقصص العظماء، واجعلوا المدارس مراكز استشفاء حقيقية من إرهاصات الحرب القذرة، ومنابر إشعاع بالفعل والعمل، لا بالقول والتنظير.. اهتموا بالمعلمين والمدرسين، وأولوهم اهتماماً اكبر، فهم الذين يتعبون على تربية هذا النشء وأفكاره وأخلاقه، اجعلوهم يحسون بعمق الأمانة الحقيقية الملقاة على عاتقهم، وهي: “سورية، بعد 10 سنوات، بين أيديكم، الآن، على شكل مضغ بريئة، نقية، تستطيعون تشكيلها كيفما شئتم، وتحميلها ما أردتم من قيم ومبادئ وأخلاق.

 

دين الحب والعمل

ورقة مكتوبة يتقن لفظها كل الصناع والأطباء والمهندسين والعاملين والفلاحين والفنانين، وكل إنسان في سورية، ومعهم كل راقصي السماع، وأهل الحب في دمشق، قطب النور في هذا العالم، كتبها محي الدين بن عربي:

“أديـنُ بدينِ الحــــبِ أنّى توجّـهـتْ ركـائـبهُ فالحبُّ ديـني وإيـمَاني”.

والحب في العطاء الآن سيظهر – لابد – في وجوه الشباب الذين سيرثون هذه الأرض بدلاً عنا، فلنحسن صناعته في قلوبهم وعقولهم!!