دراساتصحيفة البعث

هل سيحدد كوفيد- 19 مصير شركات النفط الكبرى؟

عناية ناصر

قد يمثّل عام 2020 نقطة تحوّل في صناعة النفط والغاز، فوسط جائحة عالمية أدت إلى خفض الطلب على النفط بنحو 8 ملايين برميل يومياً، أعلنت حكومات بلدان رئيسية (الصين واليابان وكوريا الجنوبية وجنوب إفريقيا.. وغيرها) أنها تهدف للوصول إلى صافي انبعاثات صفرية بحلول منتصف القرن. ومن المرجح بعد أن يتولّى الرئيس المنتخب جو بايدن منصبه في 20 كانون الثاني الحالي، أن يضيف الولايات المتحدة إلى القائمة، وإذا فعل ذلك، سيتمّ تطبيق أهداف صافي الصفر على أكثر من ثلاثة أخماس انبعاثات ثاني أكسيد الكربون العالمية.

يبدو أن العالم على وشك مضاعفة جهود التصدي لتغيّر المناخ، تماماً كما تعمل جائحة فيروس كورونا لتغيير سلوك المستهلك والأعمال لسنوات قادمة. كل هذا يثير المتاعب لشركات النفط الكبرى، وهي أكبر سبع شركات نفط وغاز متكاملة مملوكة للمستثمرين ومتكاملة في العالم BP ، Chevron ، ExxonMobil ، Shell ، Total ، ConocoPhillips ،  Eni . ويبدو أن الانتقال من الوقود الأحفوري إلى مصادر الطاقة المتجدّدة ينمو ليصبح قوة لا يمكن إيقافها. والسؤال الآن هو ما إذا كان بإمكان شركات النفط الكبرى هذه إعادة تطوير نفسها بالسرعة الكافية لتكون قادرة على البقاء في الاقتصاد الجديد القائم على  الانبعاثات الصافية الصفرية، أو ما إذا كانت ستعاني من مصير علامة التصوير الفوتوغرافي الشهيرة “كوداك”، التي تمسكت بتقنية التصوير القديمة في وقت كان التصوير الرقمي قد سيطر على السوق، واضطرت في النهاية إلى إعلان الإفلاس.

لقد كان الوباء هو أكبر صدمة طلب على أسواق الطاقة العالمية منذ الحرب العالمية الثانية، وقد عجّل بانهيار كبير في أسعار النفط والغاز، وهو ثالث انهيار كبير في الأسعار كان على منتجي النفط تحمّله خلال الـ 12 عاماً الماضية، بعد الصدمات في 2008 و2014. يأتي ذلك وقطاع  الطاقة أقل استعداداً لمواجهة هذه الصدمة لأن حالته المالية والهيكلية أسوأ مما كانت عليه خلال الأزمات السابقة. علاوة على ذلك، فإن عمق هذه الأزمة ومدتها غير مسبوقين. لقد ضرب COVID-19 أسواق النفط في الوقت الذي كان قطاع الطاقة يسعى للتعامل مع الآثار اللاحقة لما يُسمّى “ثورة الصخر الزيتي” في الولايات المتحدة، والتي شهدت قيام شركات الطاقة الأمريكية فجأة بتوسيع استخدامها لتقنيات التكسير والحفر الأفقي، مما أدى إلى تخمة المعروض من النفط على مستوى العالم، وهذا ما عجّل بانخفاض أسعار النفط في عام 2014، واستغرق الأمر عامين كاملين لتشكيل ائتلاف كبير يضمّ أكثر من 20 دولة منتجة للنفط للتوصل إلى اتفاق للحدّ من المعروض. كان هذا التجمع، المعروف باسم “أوبك +”، مدعوماً من روسيا والسعودية، لكن تعاونهما كان هشاً. انهارت الاتفاقية في وقت سابق من عام 2020، عندما اندلعت حرب أسعار  قبل أربعة أيام فقط من إعلان منظمة الصحة العالمية أن كوفيد -19 يشكّل جائحة عالمية.

أدت الضربة المزدوجة لحرب الأسعار  واضطرار اقتصادات بأكملها إلى الإغلاق بسبب الوباء إلى انخفاض أسعار النفط إلى أدنى مستوياتها في 22 عاماً. ففي 20 نيسان 2020، انخفض سعر العقود الآجلة للنفط الخام إلى ما دون 30 دولاراً للمرة الأولى في التاريخ، مع تداول برميل خام غرب تكساس الوسيط بسعر 37 دولاراً. ونتيجة لذلك، أعلنت شركات شل وبريتش بتروليوم وشيفرون وإكسون موبيل وشركات نفط كبرى أخرى عن خسائر تاريخية في الربع الأول من عام 2020. وخفضت شركة بريتيش بتروليوم أرباحها للمساهمين للمرة الأولى منذ التسرب النفطي المدمّر في ديب ووتر هورايزون في خليج المكسيك عام 2010، كما قامت شركة شل أيضاً بتخفيض أرباحها للمرة الأولى منذ 75 عاماً. وفضّلت الشركات الكبرى الأخرى، مثل شركة توتال الفرنسية، إجراء تخفيضات صارمة في أماكن أخرى -خفض النفقات الرأسمالية أو تسريح الآلاف من العمال- للحفاظ على أرباحها.

الآن، مع استمرار انتشار الوباء، لم يتبقَ لشركات النفط الرئيسية هذه سوى مساحة صغيرة لخفض التكاليف أكثر. كل ما يمكنها فعله في هذه المرحلة هو الجلوس وانتظار انتعاش أسعار النفط. قد توفر الأخبار الأخيرة حول التوصل إلى  ثلاثة لقاحات واعدة ضد COVID-19 بعض الأمل، لكن الأمر سيستغرق شهوراً، إن لم يكن أكثر من ذلك، لإنتاج اللقاحات وتوزيعها على نطاق واسع بما يكفي لاستئناف النشاط الاقتصادي بالكامل في جميع أنحاء العالم. ومما يزيد الطين بلّه، أن صهاريج تخزين النفط تمتلئ حتى نهايتها، مما يخلق فائضاً كبيراً من المعروض يجب تصريفه قبل أن تتمكّن أسعار النفط من التعافي المستمر. وتتطلع العديد من البلدان المنتجة للنفط بشدة إلى اللحظة التي يمكنها فيها إنهاء تخفيضات الإمدادات الحالية وتحوّل الإنتاج إلى مستويات أعلى، الأمر الذي يتطلّب المزيد من الضغط على أسعار النفط. ومع ذلك، حتى عندما تنتعش الاقتصادات وتتخلّص من تأثير كورونا فإن مشكلات شركات النفط الكبرى لن تنتهي. ففي مواجهة الاتجاهات التي بدأت قبل وقت طويل من انتشار الوباء، وعلى رأسها الدفع نحو الطاقة النظيفة، عليها الآن التفكير في إجراء المزيد من التغييرات الأساسية على أعمالهم الأساسية، وإلا سيكون مصيرها مثل كوداك، إذا لم تواجه المخاطرة بالتخلف عن الركب.

فقدان الرخصة الاجتماعية للعمل

منذ سنوات، كانت شركات النفط الكبرى تشعر بالضيق من عامة الناس والمستثمرين وصنّاع السياسات. ولتقدير مدى انقلاب الجمهور على شركات النفط الكبرى، ما عليك سوى إلقاء نظرة على ردّ الفعل العنيف ضد استطلاع حديث على Twitter حيث سألت شل المستخدمين: “ما الذي أنت على استعداد للقيام به لمكافحة تغيّر المناخ؟”، لم يتلقَ الاستطلاع الكثير من الأصوات، لكنه أثار عاصفة من الانتقادات على تويتر، بما في ذلك من ألكساندريا أوكاسيو كورتيز، عضو الكونغرس الديمقراطي التقدمي البارز، التي قالت إنها “على استعداد لأن تحاسب على الكذب بشأن تغيّر المناخ لمدة 30 عاماً، بعدما عرفت سراً أن انبعاثات الوقود الأحفوري ستدمر كوكبنا”، في تغريدة نالت الإعجاب نحو 400000 مرة.

إن تحوّل التصورات العامة حول تغيّر المناخ، يُفقد شركات النفط الكبرى بشكل متزايد رخصتها الاجتماعية للعمل. وفي هذه الأيام، يتمّ تكريس تحوّل الطاقة ليس فقط كإدخال تدريجي لمصادر الطاقة المتجدّدة، ولكن كإلغاء تدريجي للوقود الأحفوري تماماً.

كذلك فإن الأسهم والسندات النفطية الكبرى تتراجع بشكل متزايد لدى المستثمرين. ومن حيث القيمة السوقية، فإن شركة Tesla ، شركة السيارات الكهربائية، والتي ليست الآن الشركة المصنّعة للسيارات الأكثر قيمة في العالم فحسب، ولكن سعر سهمها الحالي، عند 574 دولاراً، هو أيضاً أعلى من أسعار أسهم جميع شركات النفط السبع الكبرى مجتمعة. وفي الوقت نفسه، خفضت وكالة موديز التصنيف الائتماني لشركة إكسون موبيل في آذار 2020، وفقدت مكانتها في مؤشر داو جونز الصناعي، وهو مؤشر الأسهم الممتازة الكلاسيكي، لشركة البرمجيات، Salesforce .

كانت ExxonMobil هي العضو الأكثر استمراراً  في مؤشر داو جونز منذ عام 1928. يبدو أن شركات التكنولوجيا الكبرى قد تجاوزت شركات النفط الكبرى متربعة على قمة الاقتصاد العالمي، كذلك فإن الحكومات وعلى مختلف المستويات تقوم أيضاً بتنفيذ سياسات تهدّد بتقويض أعمال شركات النفط الكبرى. لقد حدّدت اتفاقية باريس بشأن تغيّر المناخ هدفاً للعالم لتحقيق صافي انبعاثات صفرية بحلول عام 2050، وحتى قبل الوباء، تعهدت أكثر من 73 دولة بالالتزام بالوصول إلى صافي انبعاثات صفرية بحلول ذلك العام، وفقاً للأمم المتحدة. كما أعلنت المزيد والمزيد من البلدان، ومن المقاطعات والمناطق، عن خطط لحظر بيع السيارات الجديدة ذات محركات الاحتراق الداخلي، مثل النرويج، التي تهدف للوصول إلى ذلك بحلول عام 2025، والمملكة المتحدة بحلول عام 2030، وكاليفورنيا والصين بحلول عام 2035.

بسبب هذه الاتجاهات جزئياً، تخترق مصادر الطاقة المتجدّدة نظام الطاقة العالمي بشكل أسرع من أي مصدر وقود في التاريخ، كما أشارت شركة “بريتش بتروليوم” في تقرير عام 2019. ومع ذلك، فإن نمو مصادر الطاقة المتجدّدة بحدّ ذاته لا يعني نهاية عصر النفط والغاز. إذا استمر الطلب العالمي على الطاقة في النمو كما حدث خلال العقود القليلة الماضية، فهناك مجال لزيادة استهلاك النفط والغاز بالأرقام المطلقة، حتى لو انخفض بشكل نسبي. وهذه إلى حدّ كبير هي قصة ما حدث للفحم في القرن العشرين، فقد خسر حصته في السوق للنفط والغاز، ولكن نظراً لتوسع استخدام الطاقة نفسه، استمر إجمالي كمية الفحم المستخدمة في النمو.

هناك العديد من توقعات الطلب المستقبلي على النفط. ومع ذلك، فإن الاتجاه العام لا جدال فيه: النمو في الطلب على النفط يتباطأ عن المعدلات التاريخية وقد اقترب من الذروة، فوفقاً لبعض السيناريوهات التي توصلت إليها شركات النفط، وصل الطلب إلى ذروة الطلب في العالم بالفعل. لقد بدت مثل هذه التقييمات متطرفة، لكنها أصبحت وجهة النظر السائدة وسط الوباء، وتتوقع “بريتش بتروليوم” الآن بشكل جديّ أن الطلب على النفط لن يتعافى أبداً إلى مستويات 2019، في جميع سيناريوهاتها. يعتقد متنبّئ آخر،DNV GL ، أن ذروة الطلب على النفط قد تمّ بلوغها بالفعل.

لا يزال آخرون يعتقدون أن الذروة سيتمّ الوصول لها في المستقبل، إذ تشير السيناريوهات الخاصة بوكالة الطاقة الدولية إلى أن هذا قد يكون العقد الأخير من النمو في الطلب على النفط، ولكن لا توجد ذروة أو انخفاض واضح بعد ذلك. وبدلاً من ذلك، تتوقع وكالة الطاقة الدولية أن يهبط الطلب على النفط في ثلاثينيات القرن الحالي عندما يصل إلى نحو 104 ملايين برميل يومياً، أو نحو 99 مليون برميل يومياً إذا استمر الوباء. لكن أوبك لا تزال أكثر تفاؤلاً، ففي أحدث تقرير لها عن توقعات النفط العالمية، صدر في تشرين الأول الماضي، تتوقع أوبك زيادة الطلب على النفط من نحو 100 مليون برميل يومياً في عام 2019 إلى 109 ملايين برميل يومياً في عام 2045.

إذا كان من الممكن اعتبار توقعات أوبك استثناءً، فإن السؤال الرئيسي الذي يواجه الصناعة الآن ليس ما إذا كان الطلب على النفط سيبلغ ذروته، إذا لم يكن قد بلغ ذروته بالفعل، وماذا سيحدث بعد ذلك؟. هل سيتمتّع الطلب على النفط بهضبة طويلة ومستدامة، أم أنه سينخفض ​​وينحدر؟. من الواضح أن الطلب على النفط يتوقع أن ينخفض ​​بشكل حاد كل عام من الآن فصاعداً في أي سيناريو متوافق مع اتفاقية باريس. ووفقاً لوكالة الطاقة الدولية، إذا حقّق العالم صافي انبعاثات صفرية بحلول عام 2050، فسوف ينخفض استخدام النفط بنسبة 45٪ في العقد القادم وحده.