مجلة البعث الأسبوعية

من الاتهام بالهرطقة والتعرَّض للتشهير.. أحمر الشفاه رمز للاحتجاج في القرن الـ 21

منذ عصور ما قبل التاريخ، كان البشر يبحثون عن التميز عن الآخرين، فكانت الملابس والأدوات والمجوهرات ومستحضرات التجميل أولى الطرق التي مكّنتهم من القيام بذلك، ومن ثمّ اختراع أحمر الشفاه الذي كان إحدى أكثر الطرق وضوحاً في تغيير المظهر.

إذ استخدم الصيادون أحمر الشفاه من أجل تلوين بشرتهم لتندمج بشكل أفضل مع محيطهم، كما قام الكهنة وأتباعهم باستخدامه في تزيين وجوههم لتكريم آلهتهم ومعتقداتهم، بينما استخدمته الفتيات لتمييز أنفسهن والظهور أكثر جمالاً.

ويعتقد أنّ أول أحمر شفاه في التاريخ قد تم صنعه قبل نحو 5000 عام، وكان ذلك من قِبل الملكة السومرية بوابي في مدينة أور العراقية. ويقول الباحثون وعلماء الآثار إنّ بوابي كانت شخصية محترمة للغاية في بلاد ما بين النهرين، فكانت ترتدي مجوهرات الرأس والعنق، ولكنَّ كان الجزء الأكثر إبهاراً منها شفتيها اللتين دائماً ما كانتا تلمعان بألوان زاهية.

استخدمت بوابي – أو كما تسمى أيضاً شبعاد – مسحوقاً مصنوعاً من الصخور الحمراء والرصاص الأبيض. ومع ذلك فقد تم صنع أحمر الشفاه لاحقا،ً في فترة ما قبل التاريخ أيضاً، من مصادر طبيعية متاحة بسهولة مثل عصائر الفاكهة والنباتات.

 

كليوباترا استخدمت الخنافس والنمل

ولكن عندما بدأت الحضارات المبكرة في الظهور في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والهند، مكنت عمليات التصنيع المتقدمة من البدء أخيراً في إنتاج أنواع جديدة من أحمر الشفاه. وأول من فعل ذلك كان نساء بلاد ما بين النهرين اللواتي كن يطحن الأحجار الكريمة ويستخدمن الغبار لتزيين شفاههن بالبريق.

كما استخدمت النساء من حضارة وادي السند أحمر الشفاه بانتظام، لكن مصر كانت هي المكان الذي تلقت فيه صناعة أحمر الشفاه العديد من التطورات، إذ استخدم أعضاء العائلة الملكية ورجال الدين والطبقة الراقية عدة أنواع من أحمر الشفاه، بعضها بوصفات تحتوي على مكونات سامة يمكن أن تسبب أمراضاً خطيرة.

أما كليوباترا، ملكة مصر، فلجأت إلى استخدام أحمر شفاه مصنوع من نوع من الخنافس الذي يعطي صبغة حمراء داكنة، مع إضافة نمل ومادة مستخرجة من صدف أحد الحيوانات البحرية، ومن هناك بات اللون القرمزي هو الشائع لأحمر الشفاه.

وفي عام 1000 ميلادية تقريباً، كان العالم العربي الأندلسي أبوالقاسم الزهراوي أول من اخترع أحمر شفاه صلباً، وقد ذكره في كتابه “التصريف لمن عجز عن التأليف”.

تعامل المرأة مع الشيطان في عصور الظلام

بعد أن تمكنت مصر من نشر اختراعاتها وتطوراتها في جميع أنحاء أوروبا، وصل اختراع أحمر الشفاه إلى الإمبراطوريتين اليونانية والرومانية خلال العصور الوسطى. وبعد انتشار المسيحية في أوروبا أصبح أحمر الشفاه شيئاً من الماضي، وتم نسيانه تماماً تقريباً بعد أن أدانت الكنيسة الكاثوليكية استخدام مستحضرات التجميل. وكان ينظر إلى استخدام النساء اللواتي بأحمر الشفاه على أنه علامة على الاختلاط مع الشيطان وعبادته.

ولكن خلال حروب الفرنجة في العصور الوسطى، عندما بدأت أوروبا في إعادة اكتشاف الشرق الأوسط، ومعتقداته المتعلقة بمستحضرات التجميل، كان الأثرياء والنخبة الدنيوية قد جعلوا الكيميائيين يصنعون أحمر شفاههم من أجل بيعه على أنه خلطة سحرية لنجاح التعويذات.

فبدأ الباعة الجوالون في بيع خلطاتهم الغريبة والصوفية في أوروبا، في حين كانت هناك نساء شجاعات بما يكفي فاستخدمن أحمر الشفاه لجعل بشرتهن تبدو أكثر إشراقاً.

 

هرطقة وشكوك أخلاقية

بعد تحريم استخدامه لفترة طويلة، عاد أحمر الشفاه إلى الظهور في القرن السادس عشر من خلال التغييرات الدراماتيكية التي أجرتها الملكة إليزابيث الأولى، وكانت “الموضة” في ذلك الوقت متمثلة بوجوه شديدة البياض وشفاه ملونة بألوان زاهية.

بقيت هذه الموضة رائجة في بريطانيا تحديداً لفترة من الزمن، قبل أن يعاود أحمر الشفاه الاختفاء حتى أوائل عشرينيات القرن الـ 19، عندما عادت موضة استخدام أحمر الشفاه إلى أوروبا، فتم استخدامه من قِبَل الممثلات والمشاهير والطبقات الغنية. ولكن عموم الشعب دائماً ما كانوا يربطون استخدامه بالأعمال المنافية للأخلاق والهرطقة.

 

أحمر الشفاه رمز للقوة

يعود الفضل في عودة استخدام أحمر الشفاه بشكل كبير، وتغيير الصورة النمطية التي رُسمت له طيلة السنوات السابقة، إلى الممثلة الفرنسية سارة برنار؛ ففي وقت كانت نساء عديدات لا يزلن يترددن في استخدام أي مستحضر تجميل، قامت الممثلة الفرنسية بوضع أحمر الشفاه في الشوارع، أثناء تجولها، وسمّته “قلم الحب”، وهو ما عرضها في بداية الأمر إلى فضيحة في أنحاء أوروبا، ولكن سرعان ما تضامنت معها الكثير من النساء حول العالم. ومع مرور الوقت بات أحمر الشفاه إلى حدّ ما رمزاً لتحرير المرأة، خاصة عند استخدامه كرمز للمطالبة بحق النساء بالتصويت في أوروبا.

 

إلزامي للنساء في الجيش الأمريكي

خلال الحرب العالمية الثانية أصبح وضع أحمر الشفاه في دول الحلفاء رمزاً وطنياً، وشعاراً لتحدي دول المحور، بعد معرفة أنّ الزعيم النازي أدولف هتلر كان يكره أحمر الشفاه. وبعد عام على انطلاق الحرب، أعلن الجيش الأمريكي أنّ أحمر الشفاه بات شرطاً إلزامياً للنساء اللواتي يرغبن بالانضمام إلى الجيش، وقد طلب من شركة إليزابت آردن، المتخصصة بالتجميل، أن تصنع أقلام أحمر شفاه وطلاء أظافر بلون أحمر يناسب لباس الجيش.

 

رمز للاحتجاج

في القرن الـ 20، بات أحمر الشفاه أحد الرموز التي تستخدمها النساء في التعبير عن آرائهن؛ ففي عام 2015، قامت امرأة مقدونية بطبع قُبلة بأحمر شفاهها على درع أحد عناصر مكافحة الشغب خلال احتجاجات مناهضة للحكومة المقدونية كعلامة على التمرد.

وفي عام 2018، وضع النساء والرجال في نيكارغوا أحمر الشفاه، ونشروا صورهم على وسائل التواصل الاجتماعي، كنوع من أنواع الدعم للمعتقلين المناهضين للحكومة، وذلك استجابة لدعوة من الناشطة السياسية مارلين تشاو.

وفي كانون الأول 2019، نزل قرابة 10 آلاف امرأة في تشيلي إلى الشوارع، مرتديات عصبات عيون سوداء وأوشحة حمراء، مع وضع أحمر شفاه، من أجل التنديد بالعنف الجنسي في البلاد.