مجلة البعث الأسبوعية

غزل البنات.. كأس من السكر وطابور انتظار الحلوى

“البعث الأسبوعية” ــ رامز حاج حسين

في التفاصيل الموغلة في القدم عبر أزمنة الطفولة المتشربة بكل ألق الحارات العتيقة، يطيب لنا التندر ونحن نتحلق حول نار الحكاية لنروي ما لذ وطاب من لحظات كانت فيها الطفولة بكراً، وكان أقصى درجات الحلم أن نحصل على “خرجيةط تليق بأحلامنا، نجمعها تحت أوراق الزيتون، وفي جذوع الياسمين المتشققة، وتحت الوسائد بعد أن ننفض غباراً ذهبياً من وهج ابتسامات أمهاتنا.

واحد يجمعها لشراء ثياب جديدة، وآخر ليقتني كتاباً، وثم من يهتم بالذهاب سراً لحضور عرض مسرحي أو فيلم سينمائي.. تتعثر العبرات وهي تسترجع كل تلك الذكريات، ففي ذائقتنا المحلية والشعبية والقروية الكثير من التفاصيل التي تستحق أن تكون منصات تحمل كل ما نحب من قيم إيجابية في ثقافة أطفالنا.

 

طابور ليس ككل الطوابير

كان صوت بائع غزل البنات يطربنا، صانع تلك الحلوى المصنوعة من شيّ السكر بطريقة لطيفة، يخرج لنا من تلك الصينية وشائح ملونة بالزهري والأزرق والأصفر، كنسيج ألف دودة قز.. نقف تباعاً ونحن نحمل بيد كأس السكر المغلف بكمية من الرجاء بذلناها أمام عتبات عيون أمهاتنا، وفي اليد الأخرى نحمل النقود ثمن تحويل السكر الأبيض إلى غزل البنات.

تنفتح أعيننا، ونحن صغار، على ألف سؤال وسؤال في الكيمياء والفيزياء وخيال الحكايات وأدب الكبار: كيف لحبيبات ناعمة من السكر الأبيض أن تتحول بهذه الحركة السحرية من يد هذا الرجل الأسمر إلى قطعة من عسل هشّ؟!!

تنتهي كل تلك الأسئلة، وتضيع تفاصيل البحث عن أجوبتها بمجرد أن تغرق الشفاه في عذوبة وطراوة تلك الحلوى الشهية.. بالمعنى المجازي، يجب أن يكون كاتب قصص الأطفال ورسام لوحاتهم كهذا الحاوي الأسمر، صانع غزل البنات، قادراً على التقاط السكر الخام الموجود في أرشيف بيئاتنا السورية البكر، ومن ثم سكبه في روحه ووجدانه ليعيد تصنيعه قصصاً تليق بذائقة أطفالنا، ولوحات تتغنى بالإرث النبيل لفننا السوري الأول.

 

أغشى الوغى

في هذا البيت النبيل، يتغنى فارس العرب الأشهر، عنترة، بأنه ما ترك مناسبة إلا وتقدم الصفوف ليدافع عن مكارم وعرض أهله؛ ولكن حين يتبارى الفائزون باقتسام الغنائم، يعف ويتراجع لمكانته وخصوصية ما تربى عليه.

الشاهد

مم الخوف حين نجرب دروب الكتابة للطفل والرسم بتقنيات جديدة، لنبحث في المراجع والتجارب الحالية للفنانين والكتاب الرواد الذين أثروا ذائقة أطفالهم في كل أرجاء المعمورة، بما يليق ويخلب الألباب من أفكار مدهشة ولوحات معبرة سامقة عالية الكعب.

حين رسم الفنان الفرنسي المشهور، رينوار، لوحة “الجسر الجديد”، تعرض لهجوم ونقد كبيرين على عمله الفني ذاك، لدرجة أن الناقد المعروف إميل كادرون قال عنها: “تخلو من أبسط قواعد الرسم والتلوين”.

الشاهد هنا أن تلك اللوحة باتت من أشد اللوحات تأثيراً في حركة الفن الفرنسي والعالمي، ولم تقيدها تلك النظرات والقواعد الأكاديمية حين غرد بها رينوار خارج سرب أقرانه.. السباحة أحياناً ضد مجرى النهر تقوي عضلة القلب وتقوي روح العزيمة.

 

مثال سوري خام

المتأمل في لوحات الفنان طه الخالدي – رحمه الله – عبر صفحات مجلة “أسامة”، ومجلات الأطفال العربية، سيلاحظ انه أتقن فن التفرد والتغريد خارج السرب بطريقة تركت أثرها في ذائقة الجيل الذي ظهر فيه طه الخالدي، مع الرعيل الأول المؤسس لفن الطفل السوري.. طه الخالدي بساطة لا مثيل لها في تحوير الكتل إلى خطوط سهلة الفهم، وعميقة التكوين، والألوان تنساب من عيون اللوحة كالدمعة الرقيقة التي تعقب ابتسامة الفرح الغامر.. تجربة طه الخالدي حري بها أن تكون كتاباً أكاديمياً يدرّس أسلوبه الفني بطريقة منهجية مع الكثير من التنظير الفني للوحاته ودراستها خطوطاً وألواناً.

 

الجسر الجديد

في العودة إلى “الجسر الجديد” ] لوحة رينوار[ في المثال أعلاه، فإن الأخير أقام مع سيسيلي وبيرت موريزو مزاداً لبيع اللوحات التي يعتبرونها الأهم في تجربتهم آنذاك، فكانت المفارقة أن لوحته التي يعتد بها – “الجسر الجديد” – بيعت لشخص اسمه هازار، بمبلغ 300 فرنك، ولم يلق المزاد أي إقبال أو حماسة من المقتنين للوحات الفنية، حتى أنهم لم يستطيعوا دفع مستحقات دار المزاد التي أجرتهم القاعة التي عرضوا فيها اللوحات، فقال رينوار متندراً: “بعد المزاد بقينا ندين لدار المزاد العلني ببعض المال، لقد ظهر رجل شجاع اسمه هازار اشترى “الجسر الجديد” بمبلغ 300 فرنك، ولكن لا أحد حذا حذوه”!! وبعد ظهور النظريات الفنية التي أطلقت على تلك المدرسة إسم “الانطباعية”، اختلت كل المعطيات، واليوم إذا أردنا أن نقيم لوحة “الجسر الجديد” نفسها لذهب النقاد ومقتنو التحف الفنية لتقدير ثمنها بحوالي الـ 6 ملايين يورو على الأقل.

كل الأعمال الفنية المتميزة والمغايرة للمألوف تنتقد وتنبذ وتهاجم في بداية الأمر، ولكنك حين تستند إلى فكر متنور وخطة واعية، وإلى أسس من الأصالة والمهنية في تنفيذها، فإن أعمالك تلك لابد أن تصل يوماً ما، ولا بد أن تترك الأثر كذكريات الطفولة الحلوة التي بدأنا الحديث عنها.. كطعم غزل البنات الحلو في أفواهنا البريئة.