مجلة البعث الأسبوعية

عن الثلاثي الماغوط وعدوان وونوس.. الخذلان بطل المشهد التراجيدي في المسرح السوري

“البعث الأسبوعية” ــ عصام عبود

في منتصف القرن الماضي ظهر العديد من الكتاب والشعراء السوريين الذي تولوا قيادة المسرح السوري، وقد مزجوا بين القصيدة وبين البناء الدرامي لأعمالهم المسرحية، فأخذ المسرح طابع القصيدة التي تتواصل مع الناس وتشرح معاناتهم اليومية، وكان محمد الماغوط ممدوح عدوان سعدلله ونوس من أوائل هؤلاء الكتاب؛ وعلى الرغم من الاختلاف الفكري والأسلوب الأدبي بين ثالوث المسرح السوري هذا، إلا أنهم تقاسموا النجاح وخيبة الأمل بين بعضهم البعض، ولا ننكر مسرح فرحان البلبل أو مصطفى الحلاج طبعاً، لكن الماغوط وعدوان وونوس تفردوا بعوالمهم، فالمسرح على أيديهم كان مقدمة لثورةٍ ثقافيةٍ شغلت التفكير النقدي في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي.

 

مسرح ونوس

كان ونوس يسعى دائماً إلى تأكيد “الأنا”، أنا المثقف، أنا الشعب، من خلال تلك المسرحية التي تجرأ فيها على الحاكم العربي وجاءت بعنوان “حفلة سمر من أجل ٥ حزيران”، وكأن كل ما كتبه هو فعل من أفعال الفلسفة التي لا ترى نفسها إلا في الحياة؛ فمسرحه من “بائع الدبس الفقير” إلى “منمنمات تاريخية” بحثٌ مثالي في ترقية شعور القوة عند الضعيف، إضافة إلى بحثه عن الحقيقة لأنها تمثل وجود الله بوصفه ملجأَ قوة يستغيث به المظلوم عادةً. غير أن سعد الله ونوس كان ضد تزييف الحقيقة بحجة الحفاظ على الحياة، فالمسرح بمنظوره غني بقيم الجمال الذي يحمي الخير فيها الحياة بشكل عفوي، وبهذا يحمينا ونوس من الإحباط والسأم والانغماس في العدم، ويقهر طغيان البشر بواسطة البشر، رافضاً الخضوع والدونية. وفي مسرحية “الملك هو الملك” يريد أن يقنع المواطن العربي أن القوة التي يمتلكها الملك تكون باطلة حينما يريد الشعب، ذلك لأنها قوةٌ ممنوحة من الشعب، وليست متأصلة بشخص الملك الذي يحول كل شيء إلى سلعة لتتناسب مع شهواته، فيصبح الوطن والحق والشعب سلعاً، والملك وحده صاحبها، بما ملك من الحق وبما امتلكه من جنون العظمة.

 

مسرح عدوان

ممدوح عدوان كان يلزمه أكثر من حياة لكي يعيش أكثر ويكتب أكثر!! كانت تلزمه أنواع جديدة من الأدب لتتسع لما يريد قوله فعلاً، إذ أنه كان يفكر ويتأمل في ذاته كفرد وكأمةٍ كاملة في وقت واحد، ويمتلك ٧٢ مسرحية بما فيها من حروب ضد جميع التيارات، لكنه يبقى أديباً ملازماً لقضايا الأمة، وكان تفكيره تعبيراً عن مزاج جماهيري عام، وشخصيات مسرحياته كانت تعبر عن روح التمرد لدى هذه الجماهير.. شخصيات عكست، أو عكس ممدوح من خلالها، خصوصية مرحلة الستينيات والسبعينيات في القرن المنصرم، على اعتبارها مرحلة الهزيمة. لم يفعل ممدوح مثل بقية المثقفين العرب الذين آثروا البقاء على أطلال حزيران، بل بدأ يرسم مساراً جديداً للفكر القومي العربي، وصار يلاطمنا بحثاً عن قوة الجماهير الشعبية، وكيف تم تدجينها؛ ولم يكن بوسع عدوان أن ينجز مهام الزعيم القومي، لكنه كان زعيماً ثقافياً، لذا فقد كان الصراع داخل مسرحياته يصدمنا دائماً، لأنه يبدأ نزاعاً خفيفاً وعفوياً، ومن ثم يتصاعد فيسخن وينفجر في نهاية المطاف؛ ولذلك كانت الحلول التي يقدمها جذرية، ففي مسرحيته “هاملت يستيقظ متأخراً” كان يبرز تناقضات الأنظمة العربية التي سيفرُّ بعضها – أو أحدها – إلى الصلح مع الاحتلال الصهيوني، ولم تكن نبوءةً منه وإنما كان ينظر إلى القهر على أنه من صنع الاستبداد السياسي لا الفقر وحده، ولذلك فقد وجد أن الحل للتخلص من هذا القهر هو التخلص من الأنظمة السياسية الفاسدة التي من شأنها أن تصالح العدو الإسرائيلي، فممدوح عدوان يبقى ابن بيئته الشعبية التي ترى أن الحياة تبقى ما بقيت الكرامة.

 

مسرح الماغوط

محمد الماغوط في مسرحه، كما في شعره، نعى الثورة والثوريين، واستطاع أن يريح الشارع العربي من السلطة الثورية التي تهيمن في بعض اللحظات على الإنسان العربي أكثر مما تهيمن عليه السلطة القمعية؛ ومن جانب آخر، أخذ الماغوط مساره في الإيديولوجيا السياسية بين المواطن العربي المظلوم وبطش الظالم، فهو يرفض الهيمنة بكل أشكالها، فنجد في مسرحية “العصفور الأحدب” أنه وضع الشخصيات بهيكل دوني، حيث أنها خضعت للسلطة دون درايتها بما فعلت لكي تستحق السجن، وبالتدريج تحولت إنسانيتها إلى شهواتٍ تتقاتل عليها داخل سجنها البشري، بينما السجان يصبح سجيناً وحارساً يحفظ هيمنة الدولة؛ فبدا الماغوط ديموقراطياً ساخراً مجرداً من بروتوكولات السياسة، كما شخصياته أيضاً مجردة (صقر – دحام – المهرج)، ففي مسرحيته “المهرج” تناول ظاهرة الحرية الشخصية، وما تعانيه من اصطدامٍ مباشر مع قانون الدولة المستبدة، وهذا كان واضحاً في قصائده أيضاً، لأنه أراد أن يستعيد المثقف الناقد الذي تفاعل مع الأحداث بمنظوره التغييري وليس المثقف الهلامي، وقد انطلق من هذه الفطرة الإنسانية والأخلاقية الشعبية في جميع أعماله الأدبية.

 

الخذلان يطوق أحلامنا

في عام ١٩٩٦، أطلق سعد الله ونوس كلمته الأخيرة في وجه الحياة، أثناء إلقائه رسالة يوم المسرح العالمي، إذ قال: “إننا محكمون بالأمل، وما يحدث اليوم لا يمكن أن يكون نهاية التاريخ”؛ ولعل هذا البوح القصير كان يحمل في طياته اعترافاً بالخذلان القاتل الذي تعرض له مع أبناء عصره من المثقفين السوريين، فأبسط الهزائم هي تلك التي تأتي بعد زمنٍ متأخرٍ من انتظار النجاح وتحقيق الأحلام، أما المتلقي الذي أخذ يصفق ويهلل لمقولة المسرحي السوري فهو المسؤول عن ذلك الخذلان، ولو بشكل غير مباشر؛ فالمسرحيون السوريون هم في الأصل أصحاب قضيةٍ تحتاج إلى دعمٍ وعقل جماعيٍ لكي تنتصر، ولكن أجواء الاحتفاء بالعرض وطاقم العرض المسرحي تقتل فكرة النص المعروض، وتحولها من فكرة للتغير الجذري والتكاتف الجماعي إلى دعابةٍ مسليةٍ تنال استحسان المتابع؛ وما أراده ونوس هو جلد الجماهير التي لا تحسن غير التصفيق كما اعتادت دائماً، لأن استقبالها البارد للنصوص التي تحتوي على مجازر فكرية واجتماعية وسياسية يؤكد إدراكها الكامل لحجم الخطر الذي يحاصرها، ومع ذلك فإنها لا تحركون ساكناً؛ ويذكر أن المخرج الراحل علاء الدين كوكش الذي أخرج نص “حفلة سمر من أجل ٥ حزيران” قد أصيب بالإحباطٍ عندما وجد أن الجمهور المتابع قد خرج من صالة العرض دون أن يتكلم، أو أن يعطي انفعالاً واحداً.. خرج من العرض وكأنه لم يدخل إليه أصلاً، وذلك هو شأن الماغوط وعدوان الذين بذلا حياتهما بأكملها من أجل كلمة صادمةٍ وصادقةٍ، لكن الجمهور العربي كان أضعف من أن ينطقها؛ ومن ناحية الماغوط وعدوان فقد تأخرا في معرفة هذا الأمر، أو ربما لم تسعفهما درايتهما، لكنهما – وكرد فعل طبيعي – كانا ينتقدان سكون الإنسان العربي وجموده في وسطٍ محشوٍ بالأحداث المتصارعة، ولاسيما أنهما كانا يعلنان، بذلك النقد، الثورة على هذا الجمود لإزاحة الأقنعة التي تغطي ملامح الحياة، وتظهرها بشكل وديٍ ولطيف، كاشفين حقيقتها المليئة بالخراب والحزن والاستبداد والظلم، في حين أن سعد الله ونوس أدرك ذلك، وكانت غايته في يوم المسرح العالمي – من مقولته تلك – أن يتطهر من شرور خيبة الأمل التي لازمته إلى أن توفى بمرض السرطان، غير أن السرطان وحده لم يكن هو العامل الحقيقي لوفاة ونوس، أو لوفاة أي مبدع عربي.. إنما سبب الوفاة هو الخذلان.