مجلة البعث الأسبوعية

رمضان /2023/ لا دسم ولا سحور .. والصمت “الرهيب” يُخيّم على الوزارات المعنية بمعيشة المواطنين!!   

البعث الأسبوعية ـ علي عبود

تعيش ملايين الأسر السورية منذ بداية شهر رمضان 2023 واقعا مأسويا لم يمر عليها من قبل، فأسعار المواد الأساسية لأي وجبة غذائية ارتفعت أكثر من 100% في حين دخلها لم تطرأ عليه أي زيادات  فعلية قادرة على مواجهة مصاعب الحياة اليومية.

وتضطر ملايين الأسر السورية التي ليس لها معيل خارجي “حوالات” أو داخلي “مساعدات” على تحضير وجبة الفطور حسب إمكاناتها المحدودة جداً، والتي بالكاد تكفي لوجبة “دايت” خالية من أي دسم “لحوم”، في حين ألغت وجبة السحور، أو اكتفت بصحن لبنة متواضع “وغالبا مغشوش” أو زعتر “بلا سمسم” مع الشاي أو الماء فقط، بل إن الكثير من الأسر لجأت إلى الاستدانة من المعارف أو استجرار قرض من المصارف، أو بيع مدخراتها من الذهب، بل قام بعضها بتشغيل أولاده لتأمين دخل إضافي كبييع الخبز أمام الأفران أوفي مهن هامشية كغسيل السيارات أو “عامل توصيل طلبيات” من البقاليات إلى المنازل.

ولم يفاجئنا الصمت الرهيب الذي يُخيّم على الوزارات المعنية بمعيشة المواطنين (المالية، والتجارة الداخلية، والإدارة المحلية، والاقتصاد، والزراعة، والنفط، والصناعة)،  فهذه الوزارات سواء منفردة أم مجتمعة في مجلس الوزراء، لم تجد نفسها معنية بالجواب على السؤال: كيف نؤمن السلع الأساسية لوجبات الإفطار والسحور لملايين الأسر السورية بأسعار تناسب دخلها؟

العين بصيرة واليد قصيرة

وينطبق على ملايين الأسر السورية التي تجول الأسواق لشراء مواد أطباق الفطور المثل الشعبي “العين بصيرة واليد قصيرة”!

الحق يقال أن الأسواق عامرة بما لذ وطاب من مواد وسلع أساسية وكمالية، وبأصناف وأسعار متدرجة، لكنها غير متاحة إلا للمقتدرين مالياً، بل لفاحشي الدخل والثراء فقط، فملايين الأسرة السورية عاجزة عن تأمين وجبة فطور مع دسم بمبلغ لايقل عن 100 ألف ليرة وبلا أي نوع من الحلويات الرخيصة أو المغشوشة، ووجبة سحور بمبلغ لا يقل أيضا عن 50 ألف ليرة، هذا باستثناء مصاريف المعيشة الأخرى وفي مقدمتها أجار البيت والنقل وفواتير الخدمات المنتظمة “كهرباء وماء وهاتف وانترنت وموبايل..الخ”، وبما أن القوة الشرائية لدخل الأسرة “تقزّم” إلى مستويات مهولة وغير مسبوقة، في ظل صمت رهيب وتجاهل مخيف للوزارات المعنية بمعيشة المواطنين، فإن ربّات المنازل والعائلات لجأنَ إلى التقتير أي مادون التقنين في شراء السلع سواء بالقطعة أو الأوقية أو حتى “بالحبة” ، أو بالاستغناء كلياً عن الدسم أي اللحوم والفروج، والأخطر من هذا وذاك لجوء الكثير من ربات المنازل إلى شراء احتياجاتها من البسطات المكشوفة على الرغم من أن  موادها مغشوشة بل وتلحق الضرر بصحة الناس، ولا ندري أساسا انتشارها على نطاق واسع على مرأى من أجهزة الرقابة.

وبرأينا عضو غرفة تجارة دمشق محمد الحلاق كان متفائلا بقوله أن حركة الطلب على المواد الغذائية سجلت تراجعاً كبيراً بنسبة 50 % مقارنة مع الأيام الأولى من شهر رمضان الماضي، بسبب تراجع القدرة الشرائية لدى معظم المستهلكين، فالتراجع أكبر بكثير، والدليل اختفاء المواد الأساسية كاللحوم والفروج وما يلحقها من مواد للطبخات الرمضانية التقليدية في موائد إفطار الأسر السورية كالشاكرية والكبسة والمحاشي والكبب و.. الحلويات!

وداعا للإفطار في المطاعم

وكان بمقدور معظم الأسر السورية في السنوات الماضية تناول وجبات الإفطار والسحور في المطاعم عدة مرات في شهر رمضان، فقد كان دخلها يتيح لها هذا التقليد الذي تحول في رمضان 2023 إلى بذخ وترف غير متاح إلا لأصحاب الدخول الكبيرة جداً.

ومع أن المطاعم لم تتوقف عن تقديم ما تسميه بالعروض المغرية لوجبات الإفطار والسحور، فإن أصحابها يعرفون جيداً أن زبائنهم من الطبقة الوسطى التي كانت شريحتها الكبرى من العاملين بأجر تبخروا، ولم يعد بمقدورهم حتى شراء البيض والفلافل، فأقل فطور للشخص الواحد لا يقل عن راتب الحد الأدنى للأجر، أي بزيادة 100% وبكميات ودسم أقل من وجبة فطور رمضان 2022، ودون المشاريب التقليدية “قمر الدين والتمر الهندي والجلاب” والقهوة، وحتى كلفة وجبة السحور تتجاوز في المطاعم الـ 50 ألف ليرة للشخص الواحد،أي نصف راتب العامل بأجر!

 

الغلاء لم يستثن “تسالي” رمضان!

ولم تكن الأسر السورية تحسب كلفة تسالي رمضان، والتي تشمل “الناعم، والمعروك، والفول، والبوشار..الخ” فقد كانت كما يقال من التقاليد اليومية، لكنها أصبحت أسعارها في رمضان 2023 خارج أهتماماتها لأن الغلاء الفاحش لم يستثنها من قائمته، ولم تعد تتواجد هذه “التسالي” مهما كان نوعها وكميتها في منازل الصائمين إلا فيما ندر، فسعر الخبزة الواحدة الصغيرة من الناعم لايقل عن 4 آلاف ليرة، والمعروك السادة وصل إلى 8 آلاف والمحشي إلى 15 ألف.

ومن كان يصدق فيما مضى من أشهر رمضان ان “المشاريب” التقليدية ستختفي تدريجيا عن موائد إفطار ملايين السوريين، فقد وصل سعر ليتر العرقسوس في رمضان 2023 إلى 3 آلاف ليرة، والتمر هندي إلى 5 آلاف، والنوعية الجيدة منه لاتقل عن 10 آلاف ليرة .

أما الحلويات التي لم تغب عن معظم أيام وجبات الفطور، فقد اختفت من منازل ملايين السوريين لارتفاع أسعارها غير المسبوق، فكيلو النابلسية بـ 40 ألف، وقطعة القطايف الواحدة والوربات بجوز أو المحشية بقشطة بـ 3 أو 4 آلاف ليرة الخ.

وقد يقال أن أمام الأسر السورية بدائل للدسم التقليدي “اللحم والفروج” أي الأكلات الشعبية وتحديدا “القبوات والمقادم والسجقات” فهل هذه الأكلات في متناول القدرة الشرائية لملايين العاملين بأجر؟.

كانت العائلات  معتادة على“القبوات والمقادم والسجقات” أيام الجمع في شهر رمضان، لكن هذه العادات تبخرت وتراجعت إلى الزمن المنسي، فالوجبة الواحدة منها ارتفعت تكلفتها إلى مالا يقل عن 100 ألف ليرة أي أكبر من راتب الموظف، فثمن رأس الغنم 20 ألف ليرة، وكيلو السجقات 30 ألف، و4 مقادم بـ 10 آلاف ،يضاف إليها تكلفة الحشوة بما لا يقل عن 35 ألف ليرة، وبالتالي كم عدد الأسر التي بمقدورها تحمل وجبة تقليدية بهكذا مبلغ؟

الخلاصة:

عندما تحدد وزارة الأوقاف “فدية الصيام” بمبلغ 10 ألاف ليرة سورية، وعندما تبلغ كلفة وجبة  “مشروع إفطار صائم” التي أطلقتها مديرية أوقاف ريف دمشق 20 ألف ليرة والتي تقدمها لـ 12 ألف صائم يوميا، فهذا يعني أن دخل الأسرة المكونة من أربعة أشخاص يجب أن لا يقل عن 1.2 مليون ليرة شهريا حسب وزارة الأوقاف، أو 2.4 مليون حسب مديريتها في ريف دمشق، وهو المبلغ الذي يشكل الحد الأدنى لوجبة إفطار يومية بدسم وليس دايت، ودون سحور!!

وعندما يكشف عبد الرزاق حبزة أمين سر جمعية حماية المستهلك في دمشق وريفها، أن 90% من الناس نتيجة الغلاء باتوا يشترون بالغرامات، وبالأوقية والأوقيتين، وانه حتى  الفئات الميسورة تأثرت وأنفقت مدخراتها، فهذا دليل أن الوزارات المعنية بمعيشة المواطنين تتبع سياسة “التطنيش” عن مأساة ملايين السوريين ويُخيّم عليها صمت رهيب ومريب!!