مجلة البعث الأسبوعية

أميمة إبراهيم: الكتابة انتصار للحياة وتمرّدُ القصيدة اكتمالٌ لاستنطاق الوجع في دهاليز الروح!

البعث الأسبوعية” ــ أمينة عباس

يتوافق يوم مولدها مع اليوم العالمي للشعر، فكان من الطبيعي أن تعلن انحيازها للشعر: “أنت وأنا يا شعر توءمان”، خاصة وأن بداياتها في الكتابة كانت شعرية قبل أن تبدأ الكتابة للأطفال بزمن طويل؛ وعلى الرغم من أنها طرقت أبواب القصة إلا أنها تؤكد دائماً أنها تميل للشعر وتتوق إلى سماعه وتبتهج بكل نص تكتبه، وهي اليوم سعيدة بصدور مجموعتها السادسة “طفلة ومدينة ونشيد” عن اتحاد الكتاب العرب وهو الكتاب العاشر الذي يصدر لها.. “البعث الأسبوعية” التقت الشاعرة أميمة إبراهيم وحاورتها في تجربتها الإبداعية.

 

رحلة طويلة في عالم الشعر فأيّة خصوصية تحملها مجموعتك الشعرية “طفلة ومدينة ونشيد”؟

هذه المجموعة فيها احتفاء بمدن تسكننا ونسكن فيها، تتنوع نصوصها الشعرية وتربطها خيوط الأمل مع اشتداد الوجع، بدأتُها بإهداء إلى دمشق: “أنا حين أشرق بالدمع وأضجّ بالصمت هل تعلمين يا دمشق ما في الروح من وجع، وكيف إلى دروبك القديمة أهتدي!”.. ربما هو الشوق لمدن ما عادت كما في الذاكرة، الشوق لتفاصيل وسمتْنا بطابعها ومنحتْنا من صفاتها.. نصوص المجموعة تحارب الوجع الذي بات ملازماً لأيامنا بفيض من حب وأمل: “في دمشق القديمة بقايا من فرح وأزقّة تشتاق نداء الخطو ورفرفات فساتين الصبايا”، ومن قصيدة “طفلة ومدينة وعيد” أقتطف هذا المقطع: “طفلة أنا والعيد فستان مزركش بالأماني/ ودرب لديك الجنّ والميماس/ وأزقة تنشر طعم المحلب وعبق الشمرة/ في أقراص عجنتها الجارات بالودّ/ وأرجوحة تعلو تعلو وتنطلق وحكاية لما تكتمل بعد”.

 

كيف أرخت الحرب بثقلها على ما تكتبين؟ وهل غيرت بوصلتك كشاعرة؟ وبأي اتجاه؟

هذه الحرب تركت ظلالها السوداء على عالمي ففقدت أخي ولم نعثر له على أثر، أخي الذي كان يضج حياة وفرحاّ وطيبة خُطف وما زالت الروح تبكي فقدانه الموجع، وتبكي الأصدقاء الذين سافروا وهاجروا، والذين ماتوا، والمدن التي فقدت هويتها، ففقدنا معها جزءاً من ذاكرتنا.. كل هذا جعل لمفردة الغياب حضوراً موجعاً في كل ما أكتبه:

“في وطني ناياتٌ تصهلُ/ وتبكي غيابَ فرسانٍ/ كانوا آلهةَ العطاءِ.. في شتاتِ الرّوح طاروا/ وارتحلوا/ ولهم – حيثُما حلّوا – السّلامُ”.

وفي قصيدة أخرى أقول:

“اختطفَ غولُ الحربِ أبجديّتي/ عنها ألوبُ باحثةً/ تندهُني الحروفُ/ لا أراها/ ما زلتُ في المتاهات والخفايا/ أبحث كي أفكّ وثاقها”.

 

أسألك عن طبيعة العلاقة التي تربطك باللغة!!

تربطني باللغة حكاية حب وعشق وسنوات صداقة طويلة مذ كنت طالبة صغيرة، أحببتها، وتميّزت بها، وأعتقد أني جعلت تلاميذي يحبونها كما أحببتها!! اللغة وسيلتي للتواصل مع الحياة، مع الجمال للوصول إلى قلوب الناس، لذلك جاءت مفرداتي بعيدة عن الغرابة والتقعر والجفاف. مفرداتي مرويّة بماء الحياة ورائحة الزهر وخضرة الشجر واتساع السماء، ابتعدت عن كل غريب في اللغة، فلم تكن غايتي استعراض مهارات لغوية بل توق كي تكون لغتي قريبة من الناس، مبتعدة في الآن ذاته عن الإسفاف والاستسهال. اللغة وسيلتي للكتابة، والكتابة وسيلتي إلى الفرح والأمان والقوة.. أبحث عن مفردات تسّاقط من علٍ كلما لامست قاع روحي نبتت أزاهير مرجان وعناقيد شغف. في قصيدة بعنوان أبجدية الصحو أقول:

“تناديني الحروفُ/ كي أشاركَها رقصتَها الأفريقيةَ/ لكنّي أغادرُ ضجيجَ الطّبولِ/ وصخبَ الغناءِ/ أطمحُ لاحتضانِها في رقصةٍ حميمةٍ/ أسندُ بلاغتي على سُلَمِ موسيقاها/ نطيّر القوافي عصافيرَ شوقٍ/ تنقرُ تينَ الغوايةِ حرفاً حرفاً/ فينهمرُ الشّهدُ، ثمَّ تطيرُ/ وتطيرُ/ تقبضُ على غيمةٍ هربتْ، بمائِها/ فتاهتْ عن مواقيتِ هطلِها/ وعلى نجمٍ شاردٍ/ أضاعَ شرقَ نورهِ/ ثمَّ تحطُّ على مشارفِ المدى/ تندهُني/ تمسكُ بيديّ/ تعلّمني فنَّ الغوصِ/ وأبجديّةَ الصّحوِ/ بعدَ خمرةِ الدّراويشِ، فأرقصُ/ وأرقصُ/ وأفيضُ بالحروفِ.

 

عوّلت على القصيدة لتكون المسكن الأخير لأوجاع الروح.. متى تتمرد القصيدة على الشاعر لتأخذه إلى حيث تريد؟

القصيدة هي دواء القلب المعنّى والروح التواقة إلى الجمال والعذوبة والسمو. وعندما يتعب الشاعر يلجأ إلى القصيدة كي تهبه السكينة ويحلّق في فضاءات الجمال.. تمرّدُ القصيدة على الشاعر اكتمالٌ لاستنطاق الوجع الكامن في دهاليز الروح، وقراءة لواقع أقل ما يقال عنه أنه محبط؛ وأصعب ما يؤلم الشاعر أن تجافيه القصيدة، ولا تهبه مفرداتها العامرات بالحب والجمال.. ذات تمرد للقصيدة كتبت: “كأنّ الكلام/ ما عاد طوع قلبي/ صار يستعيد ماضيه/ ومع زاجل الحمام/ في واسع المدى/ يطير/ ثمّ على كفّ النّدى/ يحطّ/ ينقر حَبَّ الكلام/ حبّة/ حبّة/ وينثر ما يبتغي/ في فراديس الشغب/ وأنا/ ما أردت بهي الكلام/ مشاعاً/ إلّا لروحي”.

 

تكتبين قصيدة النثر على الرغم من تهجم الكثيرين عليها في فترة من الفترات!!

يحق للقصيدة أن تختار ما يناسبها وما يليق بها من لباس، والمهم جوهرها ومضمونها وما تحمله من موضوعات وصور شعرية، لذلك ليس العيب في قصيدة النثر بل بمن يستسهلها، فهي ليست رصف كلمات بلا معنى، ولا هلوسات، وليست غموضاً وإغراقاً في صور بلا معنى، بل إنها تتطلب تقنية وأسلوباً ولغة شفيفة وموسيقا داخلية تعتمد على رشاقة التراكيب والألفاظ، وعلى الإيجاز والتكثيف، وقد أثبتت وجودها بما تمتلكه من روح وثّابة تستطيع استيعاب إيقاع الحياة ومجرياتها؛ لكن من سلبياتها أنها فتحت الباب لكل من لم تكتمل أدواته الإبداعية كي ينصب نفسه شاعراً، وقد أتاحت وسائل التواصل الاجتماعي هذا الشيء، فأنا أقرأ على صفحاتها نصوصاً تعج بالأغلاط النحوية والإملائية، وأصحابها يقدمون أنفسهم بوصفهم شعراء وإعلاميين وأصحاب دكتوراه فخرية أيضاً، وهنا الخلل الحقيقي.. هل يعقل أن شخصاً لا يجيد قواعد اللغة، ولمجرد رصف بعض الكلمات، يطوّب شاعراً؟ هذا لا ينطبق فقط على قصيدة النثر، بل إننا نجد نصوصاّ مقفاة مرتبة بأسلوب الشطرين تحاكي الشعر العمودي، لكنها تعج بالأغلاط العروضية والنحوية.

 

في رصيدك مجموعات قصصية وشعرية للأطفال في وقت يُتهَم أدب أطفالنا بعجزه عن مخاطبة الطفل.. أية عثرات وقع فيها هذا الأدب؟

لدي أربع مجموعات قصصية للأطفال وخامسة تحت الطبع في الهيئة العامة السورية للكتاب. أنا أكتب للطفل من خلال معرفتي به، ومعايشتي له، وخبرتي التربوية، والكتابة للطفل ليست سهلة لا شعراّ ولا قصة ولا مسرحاً، الكتابة للطفل مسؤولية كبرى، فإن فشلنا في مخاطبته كان الفشل مرّاً؛ ومن خلال قراءاتي لبعض ما سمي أدب الطفل، ونُشر تحت هذا الاسم، لاحظتُ اتجاهاً سلفياً وعظياً وهذا غير مناسب فنحن في بلد محكوم بالتنوع ولا يجوز تغييب العقل بهذه الطريقة، هذه المنشورات تعتمد الدين ستاراً من خلال نصوص تحجب الحقائق العلمية عن عقل الطفل، وتصادر مقدرته على التفكير والسؤال والنقاش، وهذا مقتل حقيقي، ويبدو أن بعض دور النشر الخاصة تشجع عليه.

 

تكتبين الشعر والقصة ومع هذا لا تحبذين أن يُطلق عليك لقب قاصة.. لماذا؟

ليس في رصيدي أية مجموعة قصصية للكبار، فكيف أدعي فضلاً ليس بي، خاصة وأنا لست ممن يحبون الألقاب أو يصدرون أسماءهم بعشرات الألقاب، فأنا، أميمة إبراهيم، أديبة صنعت ذاتها واسمها بتعبها وعملها ومثابرتها، لذلك لا يحقّ لي أن أصف ذاتي بما ليس عندي.

 

كيف تصفين مرحلتك الحالية في الشعر؟ وأية ملامح لها؟

أبحث عن الأفضل دائماً وأنوّع في الموضوعات المطروقة وأبحث عن قصيدة تتسرب إلى القلوب مثلما تتسرب قطرات المطر إلى التربة، قصيدة تدلّ عليّ وعلى ذاتي الممعنة بحب البلد بكل تنوعه وتفاصيله وأفراحه وأحزانه.

 

أعلنتِ عن رغبتك في كتابة الرواية.. ما الذي يغريك بطرق أبوابها؟ وهل باشرتِ ترجمة هذه الرغبة؟

راودتني رغبة الكتابة الروائية، لكني بطبعي متأنية، لذلك لن أخوض هذا العالم إلا إذا امتلكت أدواتي السردية الكاملة، علماً أن ذاكرتي تحتفظ بتفاصيل كثيرة استقيتُها من المدن والشوارع والبيوت والحدائق، من الوجع السوري وتداعيات الحرب على الناس من وجوههم التي وسمتها الأوجاع بطابعها. الرواية عالم متكامل وعمل مضن ومهارات سرد، وحوار متعدد الجوانب، ومقدرة على الغوص في العوالم الداخلية للشخصيات، وحالياً المشروع مؤجل إلى زمن غير محدد، لكني سأبقى أكتب وأكتب لأن الكتابة انتصار للحياة، ولادة للفرح وخروج من نفق الظلام باتجاه النور.

 

بطاقة

من دواوين الشاعرة أميمة إبراهيم نذكر: “مقام للحزن مقام للفرح”، “نايات القصيدة”، “غزالات للروح”، “سرير الغيم”، “هودج الياقوت”، “دفاتر البنفسج” وقد صدر بالفرنسية عن دار أدليفر للنشر، باريس، 2018. وفي أدب الأطفال كتبت: “كيف صارت الأحلام حكايا”، “أسرار الأم والقمر”، “على جناح قوس قزح”، “غيمة وأغنية”، “لسنا صغاراً”.

وهي عضو اتحاد الكتاب العرب، ومقررة جمعية أدب الأطفال، ورئيسة مكتب الثقافة المركزي في منظمة طلائع البعث.