ثقافةصحيفة البعث

“الفلسطيني الثائر” وتأثيره بالوعي الوطني

ملده شويكاني

“أين العدل؟ أين المنطق؟ أصحاب الأرض صاروا مشردين يعيشون بالخيام والكهوف، ونحن نتحدى العواصف والبرد والحرب وسنوات الغدر، التي مازال يعيشها شعبنا الفلسطيني”، بتعليق صوتي لغسان مطر بدأ فيلم “الفلسطيني الثائر” بمقدمة توثيقية طويلة على وقع شريط الصور للجرائم الوحشية التي يرتكبها الصهاينة ضد الفلسطينيين، ليسرد حكاية المؤامرة الاستعمارية على فلسطين منذ الانتداب البريطاني، وكيف مدت دول المؤامرة الصهاينة بالسلاح والمال حتى حرب 1948، والنكبة الفلسطينية، وما نتج عنها من قهر التهجير والتشتت والمنفى وقرارات التقسيم.

هذا الفيلم الذي أنتجته منظمة التحرير الفلسطينية في عام 1969، تأليف غسان مطر وإخراج رضا ميسر، كان حاضراً بجلسة النادي السينمائي في سينما الكندي بالتعاون بين المؤسسة العامة للسينما ومؤسسة “أحفاد عشتار”، بإشراف الكاتب والمخرج وليم عبد الله، ويعد من النوع “الديكو- دراما”، ويوثق سياسياً ونضالياً وتاريخياً ضمن إطار روائي ببطولة الثائر غسان مطر بطل الفيلم، بالإضافة إلى كتابته السيناريو المأخوذ عن رواية غسان كنفاني، كما شارك جيش التحرير الفلسطيني ببطولة العمليات الفدائية فكان الحامل الأساس للفيلم، وعلى الرغم من أنه مرّ أكثر من نصف قرن على إنتاج الفيلم، لكنه ما يزال شائقاً وحماسياً ويشد المتلقي إلى كل تفاصيله على الرغم من ضعف التقنيات السينمائية التي كانت سائدة آنذاك.

ويمضي الفيلم بلغة خطابية ويجمع بين المشاهد التوثيقية والروائية لمحاولات الصهاينة تهويد القرى الفلسطينية وطمس هويتها، وفي الوقت ذاته يعرض تعذيب الفدائيين بالمعتقلات بأبشع وسائل التعذيب، ما يصعب على المشاهد متابعة بعض المقاطع لشدة قسوتها.

كما عمد المخرج على التوفيق بين الموسيقا التصويرية والنشيد الوطني “بلادي بلادي” في مشاهد مفصلية، مستحضراً على جرس الترانيم في الدير: “لا تدخل القدس ثانية، قبل أن تطهر من الدم والرجس وأولاد الأفاعي”.

وتبدأ الأحداث من مشاهد التهجير واستقدام يهود أوروبا إلى فلسطين، ومن ثم حملة اعتقالات كبيرة بالقرية، وتعذيب المعتقلين ومنهم والدة “كريم ـ غسان مطر”، لتجيب عن مكانه وتقول إنه موجود في كل شبر في الأرض الفلسطينية”، وتتم عمليات تكثيف مراقبة في نابلس لمنع تسلل الفدائيين، تستشهد والدة “كريم” من التعذيب، لينتقل المخرج إلى اعتقال “كريم” وتعذيبه، وتظهر شخصية الطبيبة في المعتقل “رشا- جمال سركيس”.

الفاصل بالفيلم حادثة تهريب الطبيبة “كريم” من المعتقل بعد الإغماء عليه من التعذيب بمشهد مثير وشائق، فخلال ثوان من تناوب الكاميرا بين صعود الجنديين الصهيونيين الدرج لنقل إحدى الجثث، تنجح “رشا” بصعوبة باستبدال الجثة بـ”كريم”، ووضع الجثة بسريره، ومن ثم تخبر سائق السيارة العسكرية بحاجتها إلى الجثة للتشريح، وتتمكن من تجاوز كل الحواجز بإطلاق الرصاص والقنابل اليدوية بالتتالي إلى أن تصل إلى معسكر الفدائيين، لتنطق بالكلمة السرية “فلسطين”، فتتضح حقيقة الطبيبة الفدائية التي زرعها جيش التحرير داخل المعتقل، ما يفسر التلميحات التي مررها المخرج بالتعاطف مع المعتقلين، ويبدأ “كريم” بالتحضير لعمليات الكفاح المسلح، ويتعرض للمطاردة من قبل الصهاينة مرة ثانية بعد أن تعرفوا على “رشا”، فيستنجدان بأحد الأديرة، وتساعدهما الراهبات بالتنكر والهروب والنجاة على صوت الترانيم.

الفاصل الثاني بحادثة استشهاد ابنة “كريم” الطفلة “وفاء” بالمدرسة لأنها تردد “فلسطين عربية، وستبقى عربية”، فتتعرض للضرب المميت من قبل الأستاذ الصهيوني، فيقتله “كريم”، ويتابع مع رشا الهرب إلى المعسكر، ليحضر لعملية فدائية، وانطلاقها بكلمة السر “رمضان كريم- الله أكبر”، وتتوازى المشاهد التوثيقية بين الكفاح المسلح والعملية الفدائية التي تنجح، ويقتل “كريم” الضابط الصهيوني الذي يلاحقه من بداية الفيلم، ليحمل راية العلم الفلسطيني مع رفيقة الدرب والكفاح “رشا” إيماءة إلى دور المرأة الفلسطينية بالمقاومة.

تبع الفيلم مناقشات مطوّلة، إذ أعرب الفنان محمود خليلي عن سعادته بعرض هذا الفيلم الذي شاهده بطفولته، وتحدث عن الفترة الزمنية التي أنتج فيها مع مجموعة من الأفلام الفلسطينية الهادفة، وكانت الصالات السينمائية في حلب تغلق وتعج بالمشاهدين، وقد لاقى هذا الفيلم نجاحاً كبيراً، وأثار التراث اللامادي للفلسطينيين فبعد العرض كانوا يقيمون الرقصات الفلسطينية ويغنون أهازيجها، وتابع: “للفيلم تأثير كبير بالوعي الوطني، فالمقولة الوطنية هي الهدف”، مشيراً إلى دور المؤسسة العامة للسينما بإنتاج أفلام هادفة عن القضية الفلسطينية، ومنوهاً بالإنتاج الإيراني القوي أيضاً للأفلام الفلسطينية.

الكاتب والمخرج وليم عبد الله عقب على دور غسان مطر بالأداء وكتابة السيناريو، وأشار إلى الدمج بين المشاهد التوثيقية والروائية وإلى مشهد التلاحم الديني التقليدي بحمل الصليب والقرآن الكريم، المشهد المتكرر بالسينما الحديثة اليوم، وأوضح فكرة اعتماد الفيلم على إشارات الاستفهام، ومن ثم الإجابة عنها في السياق الدرامي، كما توقف عند حادثة موت الطفلة “وفاء” ابنة “كريم” التي خلقت صدمة للمشاهد، للاشتغال على رسالة الفيلم ببقاء المفتاح والعلم الفلسطيني مهما كان الثمن باهظاً.