الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

العين الموشورية

أمور كثيرة قالقة لي حين نواجه الحال الثقافية، أو حين نتحدّث عن مفهوم الجيلية في الأدب، أو حين نواقف مقولة (قتل الأب) التي شاعت من أيام الإغريق، وظلّت كذلك إلى ما شاء الله من أزمنة مترادفة، ومن هذه الأمور القالقة أن العين الثقافية لا ترى إلا ما يحيط بها من أدباء وكتّـاب يعيشون بيننا من جهة، وأن الذاكرة تسلو التجارب الأدبية السابقة وما قدّمته من جمال أدبي فتّان وأزيد من جهة أخرى، ولعلّ في هذين الأمرين مثلبة كبيرة وموجعة، وهي أن العين ما عادت ترى تجارب الآخرين، وما فعلوه في الماضي، وهي لا ترى إلى الأمام من أجل المراهنة على مستقبل الأجيال الطالعة، وكذلك هي حال الذاكرة التي راحت تفرط بما عرفته من جمال أدبي، وصواب رؤيا، وطعوم أدبية غاية في الأهمية والبراعة، وفي هذا خسارات، وليس خسارة واحدة، تتمثّل في أن تلك التجارب تتقنفذ، فتنطوي على نفسها، وتصير سطراً باهتاً في التاريخ، قد لا يمرّ به سوى ناقد أو ناقدة اضطرتهما ظروف الدراسة إلى تناول ذلك الإبداع الجميل، وهذا صدود وتجاهل وغبن للأدباء والكتّـاب والشعراء الذين أفنوا أعمارهم من أجل وسم النصوص التي كتبوها بالحذق والمهارة.

وكي لا أظل بعيداً عن الواقع أشير إلى أن مؤسّس الرواية السورية الحديثة الدكتور شكيب الجابري لا أحد يتحدث عن تجربته الأدبية الضافية إلا عبر سرد تاريخي لمسار الرواية السورية، وهذا أمر لا يليق بأديب كبير عرف أهمية الأدوار التي يلعبها الأدب، مثلما عرف أهمية الآداب العالمية وعلواتها الإبداعية وما تفعله من متغيرات في الرأي العام. وهنا أسأل لماذا بعض المشاهد الأدبية، والنقدية تحديداً، ما زالت تهتمّ بالطيب الصالح بوصفه مؤسّساً للرواية الحديثة في السودان، وبـ نجيب محفوظ بوصفه مؤسّساً للرواية الحديثة في مصر، وتكاد العيون الرائية في البلدين لا تغفل عن رؤية هذين الكاتبين، مثلما لا تغفل الذاكرة عن ذكرهما في أي حديث يتعلق بالرواية الحديثة؟!.

وكذلك الأمر لا تذكر تجارب أدبية مهمّة جداً في تعبيرها عن أحوال الحياة في بلادنا كان لها صولتها وحضورها منذ أربعة عقود أو خمسة، ترى من يذكر التجربة الأدبية الكبيرة التي شُغل بها فارس زرزور، وعبد النبي حجازي، ولاسيما في مجال الرواية تحديداً، ألم يكن فارس زرزور فاعلاً تاريخياً، وبوساطة الأدب، حين كتب روايته الخالدة /حسن جبل/ التي تشيل بكل معاني البطولة والوطنية والفداء والتضحية للثوار السوريين الذين قاوموا الفرنسيس منذ أن دنسوا التراب السوري؟ أليست في هذه الرواية الروح الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي عاشها الأجداد وهم يقاتلون الفرنسيس بما توافر لديهم من أدوات ووسائل، وكيف عاشوا في مغاور جبل قاسيون، وبين أدغال غوطة دمشق، وفي الأودية، وبين الصخور داخل الكهوف؛ وعبد النبي حجازي ألم تكن رواياته في عقد السبعينيات من القرن الماضي تعبيراً وافياً عن بطولات آبائنا وأجدادنا وهم يخوضون حرب تشرين عام 1973، ومنها روايته /قارب الزمن الثقيل/ التي هي علامة روائية مهمّة تشعّ بما فيها من جمال مجاورة لروايات مثل /المرصد/ لـ حنا مينة، و/دعوة إلى القنيطرة/ لـ كوليت خوري، و/أزاهير تشرين المدماة/ لـ عبد السلام العجيلي، و/صخرة الجولان/ لـ علي عقلة عرسان، و/تاج اللؤلؤ/ لـ أديب نحوي، و/الخندق/ لـ محمد وليد الحافظ؟.

إن الزمن، البعيد والقريب، يظلُّ زمناً دانياً من أقلام النقاد والباحثين ليس من أجل استبطان ما في هذه الروايات من جمال فحسب، وإنما من أجل أن نقول إن العين الموشورية الرائية هي أهم ما يمتلك الناقد الحصيف المساوي في أهميته أهمية المبدع عالي الشأن والقيمة.

حسن حميد

Hasanhamid55@yahoo.com