الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

نوافذ 66

عبد الكريم النّاعم

قال صديقي: “لا أدري لماذا تبدو الحياة شديدة القسوة، لاسيّما على أمثالنا ممّن قُيِّض لهم أن يعيشوا حياة مديدة، لقد حلمنا بشيء وها نحن نحصد أشياء من المرارات، المهمّ، لا أريد أن أُثقِل عليك فأنا أعلم مدى معانياتك، هل لديك شيء آخر يمكن التوقّف معه”؟.

أجابه: “لن أذهب إلى المواقع التي لا تمدّ القلب إلاّ بالكآبات، اسمع هذه الحادثة، أُوقِفَ رجل من أهل إدلب الخضراء، عجّل الله عودتها لحضن الوطن، اُوقِف لأمر ما، وأُودِع السجن في حمص، ولا يعرف أحداً في هذه المدينة، وعرفَ المساجين قصّته، فأعطوه رقم محامية، هي ابنة أخي، وقالوا له: فيها الكثير من الوجدان، فاتّصلَ بها من السجن، وشرح لها وضعه، وحلفَ لها أنّ أتعابَها ستصلها وفوقها حبّة مسك، فكانت وكيلته قانونيّاً، ولم يطل الوقت، فقد أُفرِج عنه، وحين خرج من النّظارة سألتْه: “هل معك من النّقود ما يوصلك إلى بلدك”؟ فأجابها وقد اشتدّ الضيق به: “لا والله”، فناولتْه عشرة آلاف ليرة سوريّة، وربّما لامها بعض معارفها على طيبة قلبها، فقالت لهم أنا عملتُ واجبي، ولا يضيع شيء عند ربّ العباد، ولم يمض وقت طويل حتى جاء ذلك الرجل، وأوصلَ لها مستحقّاتها كمحامية، وفوقها حبّتا مسك”.

ارتسمت الدهشة على وجه صديقه، فقال: “رحم الله مَن قال: إذا خليتْ خربتْ، صدّقني أنّ خبراً كهذا يفتح شيئاً من أبواب التفاؤل، في زمن تكاد تبدو الأبواب مُقفَلَة فيه”، قال لصديقه: “لديّ خبر آخر، لا علاقة له بالأوّل وإنّما يُقدّم نموذجاً عن معاناة الفرد فيما نسمّيه الدول المتقدّمة، وما سأقوله لا يُلغي من الذهن، ولا من الاعتبار، ما في تلك البلاد من سيادة للقانون، ومن حريّات متعدّدة، ومن رفاه، ومن ديموقراطيّة، على ما يجري تمريره من تحت الطاولة، وهي ولا شكّ مجتمعات تختلف بهذا القدر أو ذاك عن المجتمع الأمريكي، رغم أنّها جميعاً واقعة تحت تأثير نفوذ واشنطن..

الخبر يقول إنّ امرأة في بريطانيا أعلنتْ أنّها ستتزوّج شجرة”..

قاطعه متسائلاً: “تتزوّج شجرة؟!! أوَلم يبق رجال حولها”؟!!.

أجابه: “دعك من التعجّب، لا شكّ عندي أنّها قد فقدتْ ثقتها بالإنسان حتى التجأت إلى شجرة، بما تعنيه من خُضرة، وإيناع، وأُنس، وجمال، إنّ امرأة في بلاد تُعتَبَر فيها حريّة الجسد حريّة شخصيّة، ومصونة بالقانون، تدير ظهرها للإنسان، فهذا يعني إعلان إفلاس من الأمل في أن تجد رجلاً تستطيع أن تعيش معه، وهنا لابدّ من ملاحظة أنّ العائلة في معظم بلدان أوروبا قد تفكّكت بحكم عوامل متعدّدة، ما عدا بعض البلدان المطلّة على البحر الأبيض المتوسّط، كإيطاليا مثلاً، والتي قد يكون سكّان بناية بكاملها مؤلّفين من عائلة واحدة، لاشكّ أن للعامل الاقتصادي بعض الأثر، ولكنّني أجد أنّ تفكيك الأسرة لم يكن عملاً طيّباً، ولا متناسباً مع فطرة الإنسان، فكم من أخوة في مدينة واحدة لا يتزاورون، ولا يسأل أحدهم عن الآخر، ولستُ أعني أنّنا هنا في البلدان الشرقيّة أحسن حالاً، وأكمل بناءً، فلدينا من المشكلات ما نحن عاجزون عن تعداده، كما أنّ لدينا من الكبت ما يكفي كرة أرضيّة بحالها، ولو أنّ حميمية العلاقات التي كانت عندنا، والتي بدأت تعاني من التفكّك لأسباب ليس هذا مجال الدخول إلى فضاءاتها،.. لو أنّها وُجدتْ في تلك البلدان المتقدّمة لتخلّصت مجتمعاتهم من الكثير من المعانيات، لاسيّما النفسيّة منها، أولم تلاحظ، من خلال ما قرأناه، وحُدّثنا به أن الكثيرين في تلك البلدان التي نغبطها على تقدّمها في القانون والاقتصاد، جمال الترتيب، وروعة الحدائق لديهم، أولم تلاحظ أنّ عدداً كبيراً منهم، من الذين يعانون من الوحدة فيربّون بعض الحيوانات ليأنسوا بها، وفي يقيني أنّه لا أنس يعادل الأنس بالإنسان”؟.

aaalnaem@gmail.com