الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

عبد الله عبد..!

حسن حميد

أكاد أجزم أن الظلم الذي أحاط بالأديب الفنان عبد الله عبد كان كبيراً وموجعاً ومؤثراً طوال السنوات والعقود الماضية، ذلك لأنه لم ينل من الشهرة والحضور والمراجعات النقدية والدراسات الأكاديمية في الجامعات ما يليق به، فهو كاتب القصة القصيرة التي لم تطاول أهميتها قصة قصيرة كتبها مجايلوه، وهو الذي كان يفوز بالجوائز الأدبية المهمّة داخل سورية وخارجها، ولم يتقدّمه في مرة من المرات أحد، فقد كانت الصدارة لقصصه التي كتبها بذوب روحه، وحذق موهبته، وبالجماليات التي حازت عليها قراءاته لهذا الفن النبيل، فن الرجل الصغير المهموم بالقضايا الاجتماعية الحارقة من جهة، وما يعذّب الذات ويكويها من جهة أخرى.

ها أنذا أقرأ مدوّنته القصصية مرة أخرى، ولا أدري عدد المرات التي جالستها، ولا عدد المرات التي أورثتني متعة أدبية لم أجدها في نصوص الكثيرين من أدباء العرب والعالم، وفي كلّ قراءة أشعر بأنني اجتبيت منها فائدة جديدة، وأنني تنبّهت إلى سلسلة تقنية لم أدرك أبعادها في المرات السابقة، وأن موهبة عبد الله عبد قد أحاطت بالنص حتى امتلكته تماماً.

قليلة هي المعلومات التي تتحدث عن سيرة عبد الله عبد الذاتية، وقليلة هي الأحاديث التي يرويها عنه وحوله الأدباء الذين جايلوه في عقدي الستينيات والسبعينيات، لأنه كان عاشقاً للعزلة، وكارهاً لمخالطة الناس، وقد رأى أن القال والقيل يفسدان علاقته بالآخرين، مثلما يفسدان علاقة الآخرين به، لقد أراد أن يكون نباتاً برياً لا أصدقاء له سوى الفضاء، والهواء، والشمس، والطيور، يكتب بصمت، وينشر بصمت، ويشارك في المسابقات الأدبية لعلّة الأعباء وظروف الحياة ليس إلا، ولم يبتهج بفوز أدبي لأنه رأى في الفرح غروراً وتعالياً على الناس، ولم يسعَ إلى ناقد أدبي ليقدّم نصه إليه لينظر فيه، ولم يطرب لنقد أدبي كُتب عن نص له، واكتفى بمقولته: الناقد الفطين بحاجة إلى نص فيه شيء من الفطنة والذكاء الأدبيين، والأديب الحق بحاجة إلى عين ناقدة ذات نفوذ وحساسية لترى في نصه ما لم يره، وإدارة الظهر، أحدهما للآخر، مثلبة وأنانية وسوء إدراك أو فهم!.

والأحاديث الأدبية للصحافة، وبعد صدور كتبه، لم تكن تعنيه أبداً، ولم يلبّ رغبات الصحفيين الذين كانوا يطاردونه بالأسئلة، لذلك فهي شحيحة إن لم تكن نادرة، وقد جاءت على شكل شهادات أدبية تفصح عن أهمية النص الأدبي من حيث هو بناء هندسي معقد، ظاهره لا يفصح عمّا استبطنه إلا بعد تعب لغوب، وأهمية التغوير بعيداً في عالم النص الأدبي لاكتشاف الأسرار التي تبقيه خالداً في مقولاته، ورؤاه وجمالياته، وخالداً في أدواره، وما يولّده في النفس من ثقة لا تقوى الأيام على مواراتها أو محوها.

عبد الله عبد أديب نافَ على مجايليه في إخلاصه لفن القصة القصيرة، فلم يغادره إلا مرة واحدة حين كتب روايته (الرأس والجدار)، وهو أديب صاحب ثقافة واسعة، أحبّ الفلسفة فجعلها ملح نصوصه، وأحبّ الرسم فجعل مفارقاته وألوانه تتناوب على الروي لتبدي دواخل الذات التي أصابتها الظروف بالعطش والحرمان، وأحبّ الموسيقى، فجعل سطوره الأدبية طيوراً راقصة، وأحب المسرح فتبارت حواراته في رسم النهايات والخواتيم الملأى بالخطف السامي الفتّان، والدهشة التي تسعى إليها الأرواح الممسوحة بالنورانية وكشوفاتها ذات الظلال الرّخية.

Hasanhamid55@yahoo.com