ثقافةصحيفة البعث

الاضطراب البشري في تحفة بيتر تايلور “حكاية عانس”

يثبت الروائي الأمريكي بيتر تايلور عبر حياته وأعماله أنه ممثل جيد للجيل الأدبي الذي قدم انتقالاً بين النهضة الجنوبية وفترة ما بعدها في أمريكا، إذ ولد تايلور في كنف عائلة ذات جذور زراعية في غرب تينيسي، وظل يتنقل مع والديه بين مدن ناشفيل وسانت لويس وممفيس بسبب طبيعة مهنة والده في التجارة، وتابع تعليمه في كلية ساوثويسترن في ممفيس، قبل أن يتبع معلمه في اللغة الانكليزية ألين تيت إلى فاندربيلت، ثم جون كرو رانسوم إلى كينيون، وروبرت بن وارن إلى ولاية لويزيانا لفترة قصيرة من الدراسة العليا سبقت خدمته العسكرية.

لم تطبع العديد من قصص تايلور لنحو عقد قبل إصدار مجموعته القصصية الأولى “A Long Fourth and Other Stories”، ولقيت جميع أعماله القصصية استحساناً كبيراً، إلى جانب العديد من مسرحياته، لكن روايتيه الأخيرتين، “A Summons to Memphis” و” In the Tennessee Country”  أكسبتاه شهرة واسعة، إذ حصل تايلور على جائزة بوليتسر في الرواية عام 1987، بالإضافة إلى جوائز أخرى على جودة وكمية الرواية القصيرة التي نشرها على مدى أربعة عقود.

كتب تايلور قصة “حكاية عانس” عندما كان طالباً جامعياً، وهي أول قصة قصيرة اختمرت فيها براعته، ونمت فيها الخصائص التي ظهرت في أفضل أعماله الروائية، ويرى معظم ناقدي أعمال تايلور أن قوته تكمن في خلق الشخصية وليس الحبكة، أو في الأسلوب وليس الحدث، إذ تركز قصصه على الرؤى النفسية لأبطال روايته التي تنكشف من خلال الفروق الدقيقة في المشاعر والمزاج أكثر من الأحداث الدرامية أو الاكتشافات الرائعة، وعلى الرغم من أن كتّاب النهضة الجنوبية، لاسيما الهاربون والمزارعون، كان لهم أثر عميق على تايلور، إلا أن قصصه تُقارن أيضاً بقصص هنري جيمس، وأنطون تشيخوف، وتوماس مان، وأكثر الشخصيات البارزة التي خلقها تايلور كانت من النساء، خاصة النساء المقيدات في مجالاتهن الشخصية بفعل المجتمع الأبوي الجنوبي، وحتى الرجال في قصصه يكونون عادة حساسين وغير قادرين على ملء الأدوار الذكورية التي تمليها الثقافة الجنوبية التقليدية.

وتسلّط الأماكن النموذجية التي يختارها تايلور في المدن الصغيرة في الجنوب الأعلى الضوء على تناقض هذه الشخصيات في تحولاتهم الشخصية من الماضي الزراعي إلى المستقبل الحضري، فتتفكك الأنظمة القديمة للثقافة الجنوبية في مجتمع أعمال عدواني، ولا يتبقى منها سوى مظاهر باهتة.

تقدم “حكاية عانس” مثالاً رائعاً عن نقاط قوة بيتر تايلور كروائي حديث يعمل داخل الجنوب المتقلّب، فبادئ ذي بدء، القصة أساساً دراسة للشخصية الرئيسية “العانس” التي تذكرت فترة مهمة من شبابها، كان اسمها بيتسي حين بلغ عمرها 13 عاماً، وبدأت الأحداث، وعندما انتهت أثبتت ابنة 14 عاماً واسمها اليزابيث، نقطة التوازن في كل إنسان بسن البلوغ أنها أكثر تقلقلاً في حالتها بصورة خاصة، حيث ماتت والدتها أثناء ولادتها لجنين ميت بعمر كبير، وفي بداية مراهقتها، ترعرعت بيتسي بين والدها وشقيقها، إلى جانب العديد من الخدم السود الذين يعتنون بمنزلهم الكبير في حي ناشفيل المستقر.

توفيت والدتها في الربيع السابق للخريف الذي أدركت فيه الفتاة خطورة سكير الحي “السيد سبيد”، الذي سرعان ما جسّد الصورة الحية لجميع التهديدات الكامنة وراء الأمان المفقود في طفولتها، في الحقيقة، يبدو أن سبيد ​​مجرد شخصية مثيرة للشفقة، فهو السليل الفاشل لعائلة مفككة أخرى في الحي، ويعيش مع أخته العجوز.

تتكوّن “حكاية عانس” من ستة أحداث شوهد فيها سبيد في حالات متباينة بين السكر والتخبط: “حدثان في القسم الاستهلالي للقصة، وحدث في كل من الأقسام الأربعة الأخرى”، وبعد كل مواجهة، يزداد انشغال بيتسي بالرجل العجوز بوصفه تجسيداً لكل الاضطرابات البشرية، وقارنته بالبهائم كالخيول البرية، وقادها حدسها إلى وجود شبه له بوالدها وشقيقها، وبعد كل تصوراتها عن سبيد​​، تحاول الفتاة إيصال مخاوفها، أولاً إلى شقيقها، ثم إلى والدها، وأخيراً إلى أعمامها، فيحاول جميع الرجال طمأنتها وتهدئتها، ولكن يبدو أن مواقفهم الواقعية حول سبيد تخفي إعجاباً ذكورياً بالرجل العجوز، وبمرور الخريف والشتاء والربيع، تنضج بيتسي لتصبح اليزابيث، فتصفف الشابة شعرها بأسلوب ناضج، وتأمر الخدم بصفتها سيدة المنزل، وتدرك أن عليها مواجهة مخاوفها في شخص سبيد، ويبلغ التطور الأنثوي لاليزابيث ذروته عندما يدخل سبيد الثمل عبر مدخلهم مترنحاً هرباً من المطر الغزير المفاجئ، وتتصل بالشرطة لإخراجه من المنزل، ثم تكشف إعادة سرد اليزابيث لهذه الحادثة بعد عقود عن إحساسها بأهمية الحادثة، على الرغم من عدم إدراكها على ما يبدو أن هذا الرفض الشديد لقبول واقع الاضطراب البشري هو الذي جعلها “عانساً”.

تلقت “حكاية عانس” نقداً إيجابياً للغاية على الدوام، كما هو حال روايات بيتر تايلور بشكل عام، وخاصة رواياته القصيرة، إنها بالفعل قصة قدمت بشكل جميل، حيث تبني الراوية العانس هويتها بلغة تليق بأكثر بطلات الكاتب هنري جيمس تعقيداً، وتوصف مدينة ناشفيل في العقد الأول من القرن العشرين بشكل رائع، مع تفاصيل محلية مثل حديقة سينتينيال بارك، والتفاصيل الوطنية مثل ظهور “عربة الخيول” القادرة على الوصول إلى سرعة مخيفة، ومع أن حكاية اليزابيث تُروى داخل جدران منزل عائلتها، تبرز قضايا الجنس والعرق والطبقية في علاقتها بعائلتها وخدمها والتجار.

وتوازن “حكاية عانس” بين التصوير الواقعي لنموذج جنوبي متغير من نماذج تايلور في النهضة الجنوبية، والتفكيك النفسي لتلك الرؤية الفنية الشائعة عند روائيي ما بعد عصر النهضة الجنوبية الذين اعترفوا بتأثيره، ويبدو أن هذا الأمر يؤكد اهتمام القراء المعاصرين المستمر بأعمال بيتر تايلور.

 إعداد: علاء العطار