دراساتصحيفة البعث

قضية المناخ تهيمن على جدول أعمال السياسيين

محمد نادر العمري

من يتابع كبرى وسائل الإعلام العالمية ومعظم اللقاءات والتصريحات السياسية بشقيها الرسمي والتخصّصي وعلى المستويين الحكومي وغير الحكومي، يلاحظ أنها تصبّ في مسار واحد، هو زيادة الاهتمام بقضية المناخ والبحث عن حلول للتغيرات التي بدأت تنجم عنه، وخاصة بعد سلسلة الفيضانات التي اجتاحت كبرى الدول الصناعية في العالم من أوروبا باتجاه الصين من جانب، ومن جانب آخر امتداد كتلة الحرائق على مساحات واسعة من دول شرق المتوسط.

ويلحظ في هذا السياق أن الأمم المتحدة لم يعلُ صوتها إلا بعد حصول هاتين الموجتين من التأثيرات المتناقضة، فعلى الرغم من تقديم المنظمات البيئية المتخصّصة أكثر من 14 ألف دراسة علمية للأمين العام على مدى عام ونصف، تتضمن تحذيرات من تغيّر المناخ على مستوى النظام البيئي الدولي، وضرورة المسارعة لحثّ الدول الصناعية على التنبّه له وإيجاد آليات لمواجهته والحدّ من آثاره، إلا أن أنطونيو غوتيرش، لم يطالب الدول الكبرى باتخاذ إجراءات سريعة وجذرية قبل حصول كوارث أكبر، إلا بعد أن وقع الفأس بالرأس، رغم أن منظمة الأمم المتحدة ترصد في ميزانيتها السنوية 104 مليارات دولار سنوياً لمواجهة التغيّر المناخي!.

ومن أبرز التقارير الأممية حول خطورة وسرعة هذا التغيّر المناخي هو ذاك الذي قدم نهاية أيار 2021، وتضمن: “تكرار الموجات الحارة الشديدة كل 10 سنوات بعد أن كانت تحدث مرة كل 50 عاماً، وذلك بسبب الاحتباس الحراري العالمي”.

واللافت في الموضوع أيضاً أن الدول التي ساهمت في تسريع ارتفاع درجة الأرض لدرجة مئوية خلال أقل من عقدين نتيجة فجورها باستغلال الطبيعة للحفاظ على ريادتها الصناعية، مما أدى لهذا التغير، هي اليوم تطالب بضرورة العمل لمواجهة هذا التغير، وفي مقدمة هذه الدول الولايات المتحدة الأمريكية، والتي من الواضح أن هذا الملف لا يعنيها سوى في إطارين نتيجة معتقدات وتوجهات الليبرالية المتوحشة التي تقودها.

الإطار الأول، توظيف هذا الملف لاتهام خصومها، وفي مقدمتهم الصين، بالوقوف خلفه، أو لتأكيد تبعية حلفائها لها، والدليل على هذا الاستهزاء والاستخفاف الأمريكي بهذا الملف الدولي الخطير وما ينجم عنه، هو قرار الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب 2016 بالانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ، ضارباً عرض الحائط بضرورة الحفاظ على البيئة، ويسمح للولايات المتحدة بالعبث بمقدرات النظام الدولي بما فيه النظام البيئي، وهو يشرعن هذا السلوك للدول الأخرى التي تقتدي بالولايات المتحدة.

الإطار الثاني، ومن صور الاستخفاف أيضاً بهذا الملف دولياً قيام إدارة الرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن بتخصيص أكثر من 3 مليارات دولار لتمويل جديد للحكومات المحلية لزيادة قدرتها على مواجهة الآثار الناجمة عن تغير المناخ دون لفت الانتباه والقيام بالسلوك نفسه في الدول التي تستثمر فيها أكثر صناعاتها الملوثة للبيئة وتجري بها أشد تجاربها العسكرية وتختبر فيها أحدث صناعاتها العسكرية، وهذه الصيغة من التفردية في المصالح وعدم الاهتمام بالنظام الدولي، ظهر في تصريح للمتحدثة باسم البيت الأبيض جين ساكي للصحافيين بداية شهر آب الحالي، عندما أشارت إلى أن هذا التمويل سيسمح للولايات المتحدة “بحماية مجتمعاتنا في المستقبل والحدّ من آثار تغيّر المناخ”، وهي أشارت فقط للمجتمع الأمريكي وكأن أميركا خارج الخريطة الجغرافية الدولية، في وقت تكابد فيه معظم شعوب العالم وخاصة النامية والفقيرة منها موجات الجفاف الطويلة وحرائق الغابات وتطرف درجات الحرارة والأعاصير نتيجة للتغيّر المناخي، الذي تقف خلفه الولايات المتحدة بشكل مباشر وغير مباشر.

وهي الحال التي تنطبق أيضاً على معظم مواقف وتوجهات الحكومات الأوروبية، والتي لا يمكن عدّها بريئة عما يشهده النظام المناخي من تغيّر، فهي التي سارعت لإقامة استثماراتها وتوظيف كميات كبيرة من مصادر الطاقة العضوية، لتحقيق ريادتها على المستوى الدولي، ولم تنظر للجانب البيئي سوى من منظور إعلاء مصالحها، وكانت تعتقد أن اختيار بلدان فقيرة ونامية لدفن نفاياتها السامة وإقامة الاستثمارات الملوثة على أراضيها سيقيها من مخاطر الآثار السلبية للمناخ، في حين أن الحقيقة العلمية والموضوعية تؤكد أن أوروبا ستكون أكثر الرقع الجغرافية تأثراً بشكل سلبي من هذا المناخ، فقاعدتها الجنوبية تطلّ على المتوسط وهي مهدّدة بالغرق أو الانغمار، ودولها هي الأقرب للقطب الشمالي، وبالتالي هي أكثر تهديداً أمام ذوبان الثلوج التي لن تعوم بداية إلا في الشمال الأوربي، فضلاً عن أن مناخها سيزداد سوءاً وقساوة.

ولكن التأثير الأكبر الذي تغافل عنه الجميع هو مصير الشعوب الفقيرة والنامية، فهذه الشعوب تدفع ثمن حياتها ووجودها مرتين، المرة الأولى نتيجة استغلالها من الدول الصناعية، والمرة الثانية نتيجة تناسيها من الدول نفسها في حالة الكوارث والمصاعب، وهذه الشعوب لا تمتلك حكومات تعوضها نتائج الكوارث ولا تملك إمكانيات تعيد تصحيح حياتها من خلاله، ولن تملك المقدرة على شراء المواد الغذائية مع ارتفاع معدلات الجفاف والتصحر واضمحلال الواقع الأمني الغذائي، ولعلّ تجربة جائحة كورونا خير مثال على واقع هذه الشعوب، فهي كانت فقط فئران تجارب لاختبار بعض الدول الكبرى!.