زواياصحيفة البعث

أوروبا تحاصر نفسها

طلال ياسر الزعبي 

يصرّ السياسيون الأوروبيون على السير خلف سياسات الولايات المتحدة الأمريكية المدمّرة في العالم حتى لو كان ذلك على حساب مصالح بلادهم العليا، ولا يختلف اثنان على أن أغلب الدول الأوروبية من حيث تدري ولا تدري تؤدّي دور التابع للإدارة الأمريكية مهما كان نوع هذه الإدارة، سواء أكانت ديمقراطية أم جمهورية، ولا يقتصر ذلك على التبعية لحلف “ناتو” الذي يُعدّ أو يُفترض أنه إطار جامع لكل هذه الدول، على اعتبار أن هذا الحلف تتحكّم الولايات المتحدة بسياساته الكبرى في العالم لعدة أسباب لا مجال لذكرها الآن، بل ربما يتم ذلك في إطار سياسة شيطنة روسيا وتخويف أوروبا من نفوذها لمنعها من تحقيق أيّ نوع من التكامل معها يؤدّي في النتيجة إلى الاستغناء عن الحاجة إلى واشنطن.

وفي الوقت الحالي يراقب العالم أجمع كيف تصرّ الإدارة الأمريكية على عرقلة جميع الجهود المبذولة في إطار قيام روسيا بتزويد أوروبا بالغاز في ظل أزمة غاز خانقة تعانيها دول الاتحاد الأوروبي، حيث عمدت أكثر من مرة إلى عرقلة (مشروع التيار الشمالي 2) لتزويد أوروبا بالغاز عبر ألمانيا، وكلما أحرزت الحكومة الروسية تقدّماً في المفاوضات مع ألمانيا في هذا الشأن تعمد واشنطن إلى وضع العصيّ في عجلات هذا الاتفاق، بينما لا تستطيع ألمانيا ذاتها المستفيد الأول من هذا الغاز الروسي الرخيص إلا أن تستمع إلى النصائح الأمريكية في هذا الشأن وتضع العراقيل في وجه الشركة الروسية المنفّذة تارة بحجة القانون الألماني وتارة أخرى لأسباب تقنية تافهة.

هذا الحال ينسحب على سائر القضايا التي تتم إثارتها حول علاقة روسيا بالدول الغربية بين الفينة والأخرى، فالنزاع الذي تتم تغذيته من دول حلف شمال الأطلسي بين موسكو وكييف ينطلي على شيء من جعل إمكانية تزويد أوروبا بالغاز الروسي أمراً مستحيلاً، حيث تدرك كييف قبل غيرها أن شتاءها الحالي سيكون وبالاً عليها إذا لم تلتزم بحالة هدوء على حدودها مع روسيا، وأن الإدارة الأمريكية التي تحرّضها على هذا النوع من العبث مع موسكو عاجزة عن تغطية حاجتها من الغاز بالثمن والمواصفات التي تقدّمها موسكو.

ومن جهة ثانية، تحاول الدول الأوروبية بدفع من واشنطن أن تقنع روسيا أن الخلاف المفتعل مع بيلاروس حول أزمة المهاجرين لا ينطلي على استهداف مباشر لها، ولكن النتيجة على الأرض تؤكد أن كل ما يقوم به الغرب من تركيز للعقوبات على بيلاروس وإغلاق حدود معها إنما هو جزء من عمل ممنهج لمحاصرة روسيا وخنقها، إذ إن بيلاروس هي البوابة الوحيدة المتبقية أمام روسيا نحو أوروبا، كما أنها المانع الوحيد أمام إطباق “ناتو” حصاره لروسيا من الغرب.

وبالتالي حتى لو سلّمنا أن الدول الأوروبية تقوم بما تقوم به في هذا السياق دون تنسيق مسبّق مع واشنطن أو دون دراية بعواقبه، وهذا مستبعد، فإنها تساهم بشكل أو بآخر باستفزاز روسيا إلى أبعد الحدود، وهذا يمكن أن يؤدّي بالمحصلة إلى إجبار مينسك المستهدفة بالظاهر على قطع خط الغاز الواصل من روسيا عبرها إلى أوروبا حسب تهديد الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو، وعندها سيكون الممر الثاني للغاز الروسي إلى أوروبا قد تعطل بالفعل، فهل سيغامر الأوروبيون أيضاً بخسارة الخط الواصل إليهم عبر ألمانيا من خلال مشروع (السيل الشمالي2) الذي يحاول خصوم روسيا الأوروبيون، وخاصة بولندا، دفع ألمانيا إلى إلغائه بتحريض من واشنطن، وهل هناك إمكانية بالفعل لإيجاد بديل للغاز الروسي حالياً يغطي احتياجات أوروبا في هذا الشتاء في ظل أزمة غاز خانقة تعانيها، وهل سيستطيع المحرّض الأطلسي من خلف المحيط إنقاذ أوروبا في حال وقوع مثل هذه الأزمة؟.

واشنطن تحرّض الأوروبيين على القطيعة مع موسكو بكل الوسائل، وأوروبا تقتفي أثر الضبّ الأمريكي في أيّ جحر يدخله، وعلى الأوروبيين أن يختاروا الآن، فإما أن يحافظوا على علاقات جيدة مع موسكو تؤدّي إلى نوع من التكامل معها وهي الأقرب إليهم جغرافياً، وإما أن يسلّموا أمرهم نهائياً إلى سيّدهم الأمريكي وهو عاجز حالياً عن سدّ احتياجاتهم من أيّ شيء وليس فقط من الطاقة.