مجلة البعث الأسبوعية

المتنبي قارئاً في حلب مع المستشرقين والطلبة

البعث الأسبوعية-غالية خوجة

المكتبة مرآة أية أمة، لأنها تعكس نشاطها الفكري والأدبي والعلمي والعقلي ومستواها الحضاري، ولأن سورية أمّ الحضارات واللغات فإنك تجد المكتبات متجذرة فيها مثل أشجارها وأهاليها، بدءً من مكتبة سيف الدولة وصولاً إلى مكتبة الأسد، وهذه حال أهالي حلب قديماً مع مكتباتهم المختلفة والمتنوعة الأثرية والوقفية والحكومية والخاصة، إضافة لمكتبات الجوامع والتكايا والمنازل والزوايا.

المتنبي قارئاً

بدأ الاهتمام العميق بالكتب والمكتبات مع العهد الإسلامي الذي دعا إلى المعرفة والعلم وكانت الكلمة الأولى “إقرأ”، لذلك تماوج الناس كما تماوجت الكتب والمكتبات في كافة أرجاء حلب العريقة، وساهم “الحكام – الولاة” في هذا الحب المعرفي، ومنهم سيف الدولة الحمداني الذي أنشأ أول مكتبة في قصره، سامحاً لمن يزور مجلسه الثقافي المعرفي بالقراءة ومنهم الشعراء والمفكرين والموسيقيين والعلماء والمفكرين، ولنا أن نتخيل المتنبي قارئاً للفلسفة والكتب المترجمة والعلوم والموسيقا.

حب معتّـق بالمعرفة

ثم استمرت هذه المحبة بالتصاعد إلى أن أصبحت حلب مقصداً مركزياً عالمياً لطلاب العلم، وانتشرت المكتبات لتكون زينة ووجاهة ونفعاً معنوياً يمنح الاحترام لأصحابها، ومادياً كونها ثروة لمن يعرف قيمتها، لكن، بعض ورثة المكتبات باعوا الكثير من المخطوطات والكتب النادرة بأبخس الأثمان لتجار الكتب والمخطوطات المترددين على بلاد الشام عموماً، وحلب خصوصاً، لشراء هذه الكنوز المعرفية، وبذلك ضاع الكثير من الثروة الحقيقية التأريخية إضافة لفقدانها من خلال النهب والسرقة والحرق والدمار.

أزمنة سوداء تحرق الكلمات والماء

ويذكر التأريخ كيف مررنا بأزمنة سوداء عديدة آخرها الحرب الظلامية التي سبقتها أزمنة سوداء أخرى، فمن ينسى كيف صار نهر دجلة والفرات أسود من حبر الكتب والمخطوطات التي رماها المغول، وكيف استهدف تيمورلنك  الحضارة العربية والإسلامية والتراث المعرفي الإنساني من خلال المكتبات، ففقدت المكتبات الوقفية ومكتبات المدارس الكبرى مثل السلطانية والحلوية والشرفية، ومكتبات أخرى مثل مكتبة بني الشحنة، وبني العديم، وبني الخشاب.

أهم المعالم الأثرية

ونتيجة ذلك صدرت الفتاوى بضرورة الحفاظ على الكتب والمكتبات لأهميتها الفكرية والحياتية والحضارية، وتمّ اختيار المدرسة الشرفية الشافعية لتكون مقراً للمكتبة الوقفية، لأسباب مختلفة، منها قربها من الجامع الأموي، وتمركزها في وسط المدينة القديمة، ومكانتها التأريخية التي أسسها شرف الدين عبد الرحمن بن العجمي سنة 658 هجرية، وهو الذي وقف عليها نفائس المخطوطات والكتب التي كانت تصل إلى حلب من أرجاء العالم، وكان يحفظ أسماء الكتب عند أقارب الواقف في درج كبير، ولكن شرف الدين بن العجمي توفي بعد استيلاء التتار على حلب، وبعدما استشهد ابن الواقف على أيديهم، ثم نهبت المكتبة في زمن أبي العلاء المعري نتيجة الفتنة، إلى أن عاد وجددها الوزير هبة الله بن البديع في عهد الملك رضوان، تبعاً لما ذكره ابن العديم.

المكتبة الوقفية

فلو ذهب أحدنا لجانب الجامع الأموي الكبير ناحية الشمال – سوق النسوان، لوجد المكتبة الوقفية تصافحه منذ أزمنة وهي تحكي له عن تحديها للأزمنة السوداء بكلماتها البيضاء المشعة بالعلوم والمعارف، وكيف واصلت مسيرتها مع افتتاحها عام 1345 هجري-1926 ميلادية، وكان القيّم عليها الشيخ محمد علي الكحال، تلاه الشيخ أحمد سردار 1420 هجرية-1967 ميلادية، وأشرق اسمها في فهارس المخطوطات العالمية، وتوافد إليها كبار المستشرقين.

انسجام أوبرالي

تتمتع المكتبة الوقفية بكنوزها المعرفية التأريخية الإسلامية العلمية المعرفية والثقافية، كونها تتضمن أهم وأقدم المخطوطات المعتبرة من التراث الإنساني العالمي، ولذلك كانت وستعود مرجعاً لا بد منه للمستشرقين والبحاثة والطلاب من مختلف أنحاء العالم.

كما تتميز بتفرد معماري جمالي، صحيح أنها أغلقت 10 سنوات بعد وفاة قيّمها سردار إلاّ أنها استعادت حضورها في احتفالية حلب عاصمة الثقافة الإسلامية، فرممت بطريقة فنية حديثة تتداخل فيها أبعاد الذاكرة مع التكنولوجيا.

ولتزداد جمالياتها استوحيت زخارفها من العناصر الهندسية في المكتبة الشرفية والجامع الأموي الكبير، مما جعلها تحفة فنية متناغمة عمرانياً مع الروح العريقة لمدينة حلب القديمة، ومتناغمة بانسجام أوبرالي مع تشكيلية الخط العربي والعجمي في زخارفها الخشبية.

وتم التخطيط للمكتبة الوقفية لتكون مضاهية للمكتبات العالمية المتخصصة فهرسياً وعلمياً ومعرفياً وتقنياً، ويظهر ذلك في توزيع أقسامها إلى الإدارة والديوان، الأمانات، الفهارس اليدوية والالكترونية، خزائن الكتب المتحركة للمجلات والدوريات، خزائن الكتب الثابتة بسعة 70 ألف كتاباً، قاعات مطالعة تتسع 140 باحثاً، قاعة باحثي المكتبة، قاعة كبار الباحثين، المعلوماتية، قاعة إعداد قواعد البيانات والفهرسة والتزويد والخدمات المكتبية، صالة متعددة الأغراض للمحاضرات والمؤتمرات والدورات التدريبية وورشات العمل والمعارض تتسع 170 شخصاً مع إمكانية الترجمة الفورية لأربع لغات وشاشة عرض وشاشات بلازما، وقسم البحث العلمي المؤلف من مراكز للدراسات العلمية والشرعية وتحقيق المخطوطات والتوثيق الشفاهي والحضاري ودراسات الفنون.

ومن معنى تناغمي آخر، أقامت المكتبة عام 2008 دورة لترميم المخطوطات بالتعاون مع مكتبة الاسكندرية ومركز جمعة الماجد بدبي، ودورة لفهرسة المخطوطات بالتعاون مع مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي بلندن، إضافة لعدة دورات أخرى لتحقيق المخطوطات، والبحث العلمي، وعلم المكتبات والمعلومات.

متحف ومراكز ثقافية

وللمكتبة الوقفية متحف خاص يعرض مقتنياتها من المخطوطات والأدوات الفلكية والنحاسيات والفخاريات واللوحات القماشية الأثرية والخشبيات واللقى الأثرية والمكتشفات التي وجدت أثناء ترميم الجامع الأثري.

وإضافة لهذا المتحف هناك متحف لسجاد الجامع الكبير في تكية أصلان دادا، ومراكز ثقافية ملحقة بالمكتبة منها مركز الوثائق والمخطوطات، ومركز الخطوط والزخارف الإسلامية، ومركز ترميم المخطوطات اليدوي والآلي.

ونتفاءل أن تعود المكتبة مع مرحلة إعادة الإعمار أبهى مما كانت عليه، لكننا نتساءل متى سيعود سوق الثلاثاء الخاص ببيع وشراء الكتب في حلب الشهباء؟