دراساتصحيفة البعث

العلاقات الصينية– الأمريكية.. مقاربات “الحرب الباردة”

قسم الدراسات

لا شكّ أن العلاقات بين الصين والولايات المتحدة تمرّ بأسوأ أحوالها منذ عدة سنوات، ويبدو أنها تتجه نحو المزيد من التدهور، حتى أصبح من المألوف وصفها بأنها “حرب باردة” جديدة. وإذا كان يقصد بتعبير “الحرب الباردة” وجود صراع يشمل كل أوجه القوة بين نظامين سياسيين غير متوافقين، فسيصبح من الواضح أن المنافسة بين الصين والولايات المتحدة تشبه إلى حدّ كبير تلك التي دارت بين واشنطن وموسكو في النصف الثاني من القرن العشرين.

وهذا الكلام لم يأتِ من فراغ، لأن صيناً أكبر نفوذاً وأكثر إثباتاً لوجودها هي المنافسة الوحيدة التي لديها القدرة على حشد قدراتها الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية والتقنية لتحدي النظام الأمريكي، كما نصّت وثيقة “إستراتيجية السياسات الخارجية المؤقتة” لإدارة بايدن.

من ناحيتها، تعبّر الصين عن رغبتها في تأسيس علاقات بنّاءة، ولكنها تصرّ في الوقت ذاته على حماية مصالحها الوطنية، بحيث لا تدع أي فرصة تمرّ دون أن تؤكد على مثالب النظام الأمريكي، وقد استفادت من الطريقة الكارثية التي تعاملت بها إدارة دونالد ترامب مع وباء كوفيد-19 وأعمال الشغب التي تكلّلت باقتحام مؤيدين لترامب لمقر الكونغرس الأمريكي لتثبت بأن نموذجها الاجتماعي والاقتصادي هو المتفوق.

ولذا يمكن القول إن وصف العلاقة بين القوتين الكبريين “بالحرب الباردة” يبدو مناسباً، ولكن إلى أي مدى هو مفيد فعلياً هنا؟ في الحرب الباردة الأصلية، كان الاتحاد السوفييتي السابق وحلفاؤه معزولين إلى حدّ كبير عن الاقتصاد العالمي، وكانوا خاصعين لقيود مشدّدة على صادراتهم ووارداتهم. ولكن الوضع الآن يناقض ذلك الوضع بشكل جليّ، فالصين أصبحت الدعامة الرئيسية للاقتصاد العالمي، علاوة على أن اقتصادها مندمج إلى حدّ كبير مع الاقتصاد الأمريكي.

وبينما كان للحرب الباردة الأصلية بعد تكنولوجي مهمّ -من خلال سباق التسلح وسباق الفضاء بالدرجة الأولى- يتمحور التنافس الحالي بين الصين والولايات المتحدة حول التقنيات الحيوية التي تسيّر المجتمعات العالمية الآن وفي المستقبل، كالذكاء الاصطناعي وتقنية “5 جي”. كما يختلف السياق الدولي الآن عن ذلك الذي كان سائداً آنذاك، فإبان الحرب الباردة، كان العالم منقسماً إلى معسكرين ثابتين، إضافة إلى كتلة عدم الانحياز التي كان الغرب يرى أنها موالية للسوفييت. أما الآن، فالعالم بات متعدّد الأقطاب تتعرض فيه مؤسسات النظام العالمي الليبرالي إلى تحديات غير مسبوقة، وهو ما يمنح الصين نفوذاً كافياً لفرض نظرتها الخاصة للعلاقات الدولية.

وتعدّ الصين أقوى منافس تواجهه الولايات المتحدة منذ القرن التاسع عشر، وهذه المنافسة هي المنافسة الجوهرية والأساسية التي تهيمن على الوضع الحالي، لذلك يجب التخلي عن المقاربات التاريخية في توصيفها، فهذه ليست “الحرب الباردة الثانية”، وإنما أخطر من ذلك بكثير. فالصين أصبحت نداً للولايات المتحدة في العديد من المجالات، وقد نجحت في أن ترتقي إلى أن تكون منافساً عسكرياً حقيقياً للأمريكيين في المجالات التي تهمّ أمنها الذاتي.

ويواجه الرئيس بايدن مشكلة معقدة بشأن الصين، فسياسته الخارجية تشمل مواقف متناقضة إزاء بكين. فكيف يمكن له أن يضغط على بكين، ويأمل في الوقت ذاته بالتعاون معها في التصدي للتغيّر المناخي وضمان استقرار منطقة آسيا والمحيط الهادئ؟ هل بإمكان الولايات المتحدة النهوض من كبوتها؟ هل تستطيع إقناع حلفاءها بأنها لاعبة تحظى بالثقة على المسرح الدولي؟.