ثقافةصحيفة البعث

فارس دعدوش: الجوائز في غالبيتها لا تحمل نفعاً مادياً

في عمر العاشرة بدأ بحفظ الشّعر العربي القديم، فبدأ بالمعلقّات وهي في نظر الشّاعر فارس دعدوش أمّهات الشّعر، لم يكن هناك طريقة لاختيار أن يكون شاعراً كما يقول ولا توجد بدايات حقيقية لاحتراف كتابة القصيدة، يوضّح: كلّ ما أعرفه وأتذكره أنّني في طفولتي كنت أميل كثيراً للقراءة بشكل يجعلني أقضي أكثر من عشر ساعات متواصلة أمام كتاب ما، وتدرّجت بالاطّلاع والحفظ على تجارب الأقدمين مروراً بالعصور الأدبية الواقعة في الجاهلية ثم صدر الإسلام بما يحتويه من تجارب الشّعراء الوافدين على حضارة الأمويين والعباسيين ثم عصر ملوك الطّوائف وعصر الانحدار وحتى وقتنا هذا، وما أزال حتّى اليوم أحاول حفظ أي تجربة تمرّ بيّ، وهذه الوقفات التّجارب طبعتني بطابع جعلني قادراً على صياغة القصيدة والتّحكّم بمقاساتها وتفصيلها على قدر المشاعر، كما أنّها طوّرتني تدريجياً فكتبت القصيدة التّقليدية في طفولتي وعبرت دروب الحداثة في شبابي، إلّا أنّني ما أزال حتّى اليوم أبحث عن قصيدتي التي لم تكتمل بعد.

وعلى الرّغم من بحثه الدّائم عن هذه القصيدة وصغر سنّه، حصد دعدوش الكثير من الجوائز، منها المركز الأوّل في مسابقة مهرجان “همسة الدّولي للآداب والفنون والمسرح” في مصر بدورته الثّامنة لعام 2020 عن فئة شعر التّفعيلة، والمركز الثاني في المهرجان نفسه بدورته السادسة لعام 2018 عن فئة شعر التفعيلة، وهو أحد الخمسة الأوائل وكلّهم بترتيب واحد في مسابقة “القدس الحرّ” الدّولية التي أقامتها مؤسسة أدبنا في إيران، كما حصل على المركز الأوّل في جائزة مؤتمر “نهج الشّهيدين الأوّل الدّولي” المعلن عنه من قبل اتّحادات رسمية دولية في سورية ولبنان وإيران والعراق واليمن، والمركز الثّالث في مسابقة “المنار الثّقافية الدولية” في العراق عن فئة شعر التّفعيلة. وبالسّؤال عن أهمية الجائزة في مسيرة الشّاعر وهل لها أثر سلبي أم إيجابي، يجيب دعدوش: إنّ الإنسان يعيش دائماً حالةً تحدّ ولا قيمة للحياة من دون هدف، وأنا أحبّ حالة التّحدي التي أعيشها حتّى مع نفسي وغريزتي، وهذا ما كان يدفعني للمشاركة في أمسيات ومسابقات كثيرة وأغلبها لا تحمل نفعاً مادياً، لكن يكفي أنّها جعلتني أتّحدى نفسي وأتغلّب عليها، ولهذه المسابقات أهمية كبيرة في حياتي لأنّها تغني أرشيفي الأدبي وتبقى تذكاراً جميلاً في حياتي وحياة من أحبّ، ولا أنسى أنّها أدخلت الفرح كثيراً لقلب والدتي وإخوتي ولو لم أشترك لما كنت حقّقت لهم فرحاً، مضيفاً: هذه المسابقات سلاح ذو حدّين لها تأثير سلبي كما لها تأثير إيجابي، أمّا التّأثير الإيجابي فهو الدّفقة المعنوية التي تقذفها في روح الشّاعر لتخبره أنّه ما يزال قادراً على العطاء وتجعله يعتزّ بما كتبه ويحسّ بقيمة قصيدته وأثرها في نفوس النّاس، أمّا الأثر السّلبي ففي شقين، الأوّل: عندما يتوقّف الشّاعر عند مسابقة ما يفشل فيها فيحسّ بالعجز ويكتئب ويغتمّ، والثّاني عندما يفوز تسرقه نشوة النّصر وتسلبه عزّة الفوز تواضعه فيغلب عليه التّكبّر ليدخل نطاقاً من العجرفة يؤثّر في ما سيكتبه لاحقاً.

وبالسّؤال أيضاً عن تركيز بعض الشّعراء على الجوائز بشكلٍ دائم، يجيب دعدوش: لست ممّن لا يكتبون إلّا للجوائز، بل أقدّم ما كتبته سابقاً للاشتراك بالمسابقة وبهذا لا أفقد خبراتي التي تعلّمتها، كما أنّني أشرت سابقاً إلى أنّ هذه الجوائز في غالبيتها لا تحمل نفعاً مادياً، فأنا أحاول دائماً أن أنتقي مسابقات خارجية ومن حقّي التّجريب ومقارنة تجربتي بتجارب الآخرين بحثاً عن التّطوير لا بحثاً عن المنفعة، وليس هناك شاعر حقيقي يتراجع أدبياً بل الأصحّ أن نقول إنّه لم يعد يوظّف إمكانيات عاطفته بشكلٍ صحيح في كتابة القصيدة وهذا لا أراه متعلقاً بالمسابقات إنّما يتعلّق بحنكة الشّاعر وقدراته والمستوى الثّقافي الذي وصل إليه. إذاً الجوائز حافز وليست هاجساً، لكن لو اضطررت لكتابة قصيدة مستعجلة هي قصيدة المناسبة، فأكتبها بقلب مطمئن وأعلم أنّ القصيدة لن تخذلني لأنّني قد هيّأت نفسي مسبقاً لهذه المواقف من خلال التّدرّب على الارتجال في القول ومن خلال الثّقافة التي خبأتها في عقلي وذهني، فلم يعد الأمر صعباً بالنّسبة لي.

ولأنّ الارتجال يحتاج موهبةً وفطرة لا يمتلكها الكثير من الشّعراء، وبحاجة للتّدرّب وهذا طبعاً لا يتمّ إلّا بوجود أصدقاء وشعراء آخرين، فهل ما تزال هذه الجلسات موجودة؟ يبيّن دعدوش: ارتجال القصيدة بشكلٍ عام وقصيدة العمود ذات الشّطرين بشكلٍ خاص موهبة تنشأ من الفطرة الشّعرية وينميها الشّاعر بالتّجربة والتّدرّب على محاكاة الصّور والمواضيع والأغراض الشّعرية سواء بالمفرد أو بالجمع، أي سواء بالمعارضات الشّعرية التي تتضمن التّخميس والتّشطير، وذلك بالتّشارك مع الشّعراء الآخرين، أو بحالةٍ فردية يخلقها الشّاعر بينه وبين ذاته بالتّحاور مع الشّاعر ذي القصيدة المعارَضة، وهناك العديد من الأمسيات أو الملتقيات التي نجتمع فيها مع الزّملاء والأساتذة ممّن لهم باع طويل في هذا المنحى ونعارض بعضنا ونتدرّب في الارتجال، سواء في ملتقيات افتراضية أو في جلسات واقعية يغلب عليها الودّ، وهي في الحالتين مفيدة وممتعة لمن يتناولها من باب تطوير الذّات الشّاعرة للأخذ بمقومات قصيدتها والتّحليق فيها في منظور ورؤى الآخرين.

يشارك دعدوش ومنذ سنوات طويلة في أمسيات تستضيف شعراء من مختلف الأجيال، وتخوّله قراءاته السّابقة لأن يعطينا فكرةً عن مواهب شابة -من عمره أصغر أو أكبر قليلاً- من حيث الثّقافة، يقول: القراءة والتّثقيف والاهتمام بالمعرفة ليست ضرورةً فقط تحتاجها المواهب الشّابة، إنّما كلّ موهبة تحتاج أن تقرأ لتطوير ذاتها، كما أنّ المواهب لا تُقاس بالعمر، إنّما تقاس بعمق التّجربة، فقد نجد نابغة شعرٍ لم يتعدَ العشرين وبالمقابل نجد شبه شاعر تجاوز الخمسين وما يميّز هذا عن ذاك هو الامتلاء المعرفي والصّبغة الثّقافية.. نحن بحاجة اليوم إلى القصيدة المثقفة، فأمام التّطور الذي نشهده من النّاحية العلمية والتّكنولوجية لم يعد الشّعر بحدّ ذاته نموذجاً مرغوباً جداً لتقويم الحياة كما كان سابقاً، فقد دخلت عصا التّكنولوجيا وأقصت ديوان الشّعوب وهو الشّعر ليصبح العالم قرية إلكترونية واحدة تتداخل ثقافاتها ويطرح منها الاهتمام الأدبي لمصلحة التّطوّر الهندسي والتّكنولوجي.. طبعاً إلّا في حالات نادرة، ولذلك نحن بحاجة لقصيدة مثقفة لا تخلو من كينونتها الشّعرية وعاطفتها إلّا أنّها ستكون أجمل ويكون لها وقع أكبر في عصرنا لو حملت رسائل تأويلية خفية حول مجال سياسي أو تاريخي أو جغرافي أو هندسي لتناقشه بلسان عاطفتها وهذا ما نسعى إليه. سئل عالم الفيزياء والفيلسوف نيلز بور ذات يوم عن شكل الذّرة فقال: إنّ لغتنا لا تصلح للحديث عنها فنحن بحاجة إلى لغة المجاز للتّعبير عن الذّرة والمجاز إن لم يكن شعراً فهو معادلة رياضية.

وليست الثّقافة وحدها ما تحتاجه المواهب الشّابة أو الشّعراء الشّباب بل يشكّل دعمها عامل تطوير واستمرارية ونجاح، يقول دعدوش: إنّ منحى الأدب والتّخصص بكتابة الشّعر والتّحليق في ملكوته يتطلّب فطرةً تولد في ذات الأديب، تصوغها الموهبة التي تنشأ معه ضمنياً، وتصقلها المعرفة والثّقافة التي تكبر مع الخبرة.. هذه الخبرة بحاجة إلى من يقدّمها للأديب أو للشّاعر وهي تتضمّن عدّة أمورٍ منها اختيار اللفظ والتّركيب المناسب وصياغة المشهد الشّعري القائم على الصّور الشّعرية المتلاحقة والمرتكز على أسس البلاغة والمحسّنات البديعية، والمزخرف بدهشة التّعبير، والاحتكاك بالتجارب الشعرية ذات الباع الخبير هم خير من يقدّم هذه الخبرة ويعطيها لمستحقيها ممّن يبحثون عنها من خلال البحث والمعرفة وحضور الأمسيات والنّقاشات وجلسات النّقد.. طبعاً هناك العديد من الشّخصيات القديرة التي تحتضن تجاربَ شعرية شابّة وتقدّم لها النّصح وتحثّها على المثابرة وتفتح لها آفاق التّجلي في النّص الشّعري، لكن هذه الدّعائم تحتاج من له القدرة على حشد موهبته وتحفيز ذهنه للاستفادة من هذه الخبرة المقدّمة.

نجوى صليبه