مجلة البعث الأسبوعية

قراءة في كتاب رينيه نبعة: “سورية 2011-2021، تحليل لحرب بلا نهاية”

البعث الاسبوعية-هيفاء علي

صدر مؤخراً، كتاب حول سورية للصحفي الفرنسي-اللبناني، رينيه نبعة حمل عنوان:
” سورية2011-2021″ تحليل لحرب بلا نهاية”.  تحدث فيه عن الحرب على سورية مع المقارنة بالحالة الأوكرانية لجهة حملة التجييش الإعلامية التي أطلقتها أوروبا والولايات المتحدة ضد روسيا، والإفراط في إقدامها على تسليح النازيين الجدد في أوكرانيا بشتى أنواع الأسلحة الثقيلة والخفيفة، تماماً كما فعلت في سورية عام 2011 من خلال تحالفها مع النظام التركي ومشيخة قطر لاستقطاب آلاف المرتزقة الإرهابيين من كل أنحاء العالم وتسليحهم وإرسالهم إلى سورية. كما تطرق إلى صمت المحيط الغربي المريب فيما يتعلق باليمن، أفقر دولة عربية منذ عام 2015، حيث أرسل الناتو الأسلحة إلى الدول المعتدية وليس إلى اليمن الضحية. فتورط الغرب وعلى رأسه فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية بشكل مباشر في هذه المجزرة التي أودت بحياة أكثر من 250 ألف ضحية من المدنيين حتى الان.

وبحسب تحقيق أجرته صحيفة فرنسية مستقلة عن مبيعات الأسلحة الفرنسية لدول الخليج، فقد قدمت فرنسا أكثر من 132 مدفعية قيصر، و70 دبابة حديثة كانت موجهة نحو الحدود اليمنية فور استلامها. بالإضافة إلى ذلك، تشارك فرقاطتان فرنسيتان في الحصار البحري الذي يتسبب في تجويع ملايين اليمنيين عدا الحديث عن تفشي الأوبئة والأمراض جراء نقص الأدوية والتي طالت الأطفال والنساء أكثر من غيرهم.

وحول الاستنتاجات التي توصل إليها نبعة من هذه المقاربة، أشار الى أن

  • أولها إقدام فرنسا على مدى قرن على اقتطاع أجزاء من سورية ثلاث مرات: من لبنان، ولواء اسكندورن لتقديمه هدية لتركيا التي كانت عدوها في الحرب العالمية الأولى، بلا شك كمكافأة للإبادة الجماعية التي ارتكبتها بحق الأرمن، على الرغم من أن فرنسا، تعتبر نفسها “حامية للمسيحيين الشرقيين”. والمرة الثالثة، في القرن الحادي والعشرين، مع بداية ما سمي بـ “الربيع العربي”، من خلال التواطؤ مرة أخرى مع رئيس النظام التركي لتدمير سورية وتطوير منطقة حكم ذاتي شمال شرق سورية. ثم يتطرق الكاتب الى الحقبة التي تم فيها تقسيم سورية والمنطقة العربية بموجب اتفاقية “سايكس بيكو”، وكيف إقترحت فرنسا تشكيل “سورية الكبرى” لتشمل القدس وبيت لحم وبيروت ودمشق وحلب وفان وديار بكر وحتى الموصل، أي منطقة تشمل سورية وجزء من لبنان وفلسطين وتركيا والشمال الناطق باللغة الكردية في العراق. في مواجهة المفاوضين الإنكليز الماهرين، تم تخفيض سورية بفضل فرنسا وخلافاً لوعودها، إلى الحد الأدنى على حساب البتر الرباعي، وإعفائها ليس فقط من جميع المناطق الطرفية (فلسطين ولبنان وتركيا والعراق)، ولكن تم بترها أيضاً في أراضيها الوطنية في منطقة لواء اسكندرون.
  • أما الاستنتاج الثاني، فهو يتلخص بممارسة فرنسا سياسة الهروب الى الأمام لتحرير نفسها من الانتقاد الذي يضر بفخرها الوطني: أدت هزيمة سيدان (1870) إلى إعلان الجمهورية الثالثة، واستسلام ريتونديس (1940) اعلان الجمهورية الرابعة، واستسلام ديان بيان فو (1954) اعلان الجمهورية الخامسة. هذا التهرب من المسؤولية يفسر انتكاس الفرنسيين، وبمجرد قراءة لتاريخ فرنسا تعطي التقييم التالي: الدولة الأوروبية الكبرى الوحيدة التي لديها التعبير عن “الميول الإجرامية لأوروبا الديمقراطية”، من تجارة الرقيق والإبادة الجماعية لهتلر، فإن فرنسا هي الدولة الوحيدة أيضاً في العالم التي تطالب من إحدى مستعمراتها بتعويض لمنحها استقلالها، هنا يتحدث الكاتب عن هاييتي. باختصار، فرنسا هي الدولة الوحيدة في العالم التي يتعارض سلوكها غير المنتظم مع العقلانية الديكارتية التي تدعي أنها تنادي بها.
  • الاستنتاج الثالث: فرنسا “بلد الشجاعة والتفاخر”. عند اندلاع الحرب العالمية الثانية، كانت الصرخة الحاشدة للفرنسيين تقول: “سننتصر لأننا الأقوى”، ولكن بعد مضي تسعة أشهر على القتال، استسلم الفرنسيون عندما كانت المملكة المتحدة بمثابة منصة لاستعادة أوروبا وتحريرها من ألمانيا النازية، وعندما وعد رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل شعبه بـ “الدموع والعرق والدم”. ونتيجة لذلك فقدت فرنسا مكانتها كقوة عظمى، وفقاً للمؤرخ مارسيل غوشيه، وتم صيدها بسبب خسارة إمبراطورتيها ورغبة الولايات المتحدة في امتلاك قاعدة إقليمية في أوروبا الغربية في ذروة الحرب الباردة السوفيتية-الأمريكية.

جنون الخطاب الفرنسي

بعد ذلك، يذكر نبعة القراء بجنون الخطاب الرسمي الفرنسي إزاء سورية، وكيف أدى هذا الخطاب الى رحيل ساركوزي وهولاند عن المشهد السياسي ومعهما وزيرا خارجيتهما، آلان جوبيه ولوران فابيوس، عن الساحة السياسية، ليجدا نفسيهما في مرحلة التجميد. وهذا ما يفسر استياء الفرنسيين المتزايد من الشؤون العامة. وفي نهاية عقد مزدوج مفجع، يبدو أن بلد العلمانية وقانون الانفصالية هو الخاسر الأكبر للعولمة، الخاسر الأكبر في أوروبا، والخاسر الأكبر في معركة سورية وليبيا وشبه جزيرة القرم، والخاسر الأكبر من وباء كورونا وأفريقيا. ويرى الكاتب أنه بات لفرنسا سجل مروع للغاية لأن الدولة العضو الدائم في مجلس الأمن فشلت في إنتاج لقاح ضد كورونا، في حين أن دولة صغيرة وهي كوبا تمكنت من تحقيق هذا الانجاز الكبير. علاوة على ذلك، و على المستوى الدولي، وجه لها حلفاؤها التاريخيون -الولايات المتحدة والمملكة المتحدة -صفعة بارعة في صفقة الغواصات الأسترالية وإبرام تحالف “أوكوس”، واستبعادها من المحيط الهادئ، وتخفيض رتبة قوتها الى قوة متوسطة، وهي في طريقها للانسحاب من مالي، ما يعتبر مؤشر لا جدال فيه على إنهاكها.

ليس هذا فحسب، فهناك المزيد من الإهانة، حيث حلت روسيا الآن محل فرنسا في دورها في حماية الأقليات المسيحية في الشرق. ومن دمشق بدأ فلاديمير بوتين استعادته لمكانة القوة العظمى والمحاور الأساسي. دمشق هي التي تملك مفتاح منزل روسيا، فـ “سوريا الكبرى” هي جزء لا يتجزأ من الكل الأرثوذكسي الممتد من الشرق إلى البلقان وروسيا. في هذا السياق، أكد ميشيل ريمبو، سفير فرنسا الأسبق لدى المحافظين الجدد في وزارة الخارجية الفرنسية، في عمله “حروب سورية” ، منزعجاً من انحطاط بلاده  التي اتقنت دور “زعيم التحالف الدولي للحرب في سورية “. إن فرنسا تمر بنقطة تحول في تاريخها وتعمل في هذا المنعطف بشكل متقطع، وتبحر في الأفق بينما تتعامل مع الأمور الأكثر إلحاحاً. وإذا لم نتوخى الحذر، فإنها تخاطر بظاهرة التباطؤ والانقراض.

كيف يحكم رينيه نبعة على مزدوجي الجنسية الفرنسية السورية؟

برأيه، كانوا متعطشين بشدة إلى الشهرة، ومغرورون بالغرور الشديد وجشع لا يقل عن ذلك لكي يجعلوا مثل هذا الوهم يتمكن منهم و الذي سيظل وصمة لا تمحى في وعيهم. هل اعتقدوا حقاً أن هذه الطواويس تثقل كاهل مسار الصراع. لقد تبين أن هؤلاء البيروقراطيين هم دمى في أحسن الأحوال. يجب أن يكون نومهم مضطرباً للغاية، بل يجب أن يكون مضطرباً أكثر عندما يفكرون في العبء الذي سوف يلقون به عارهم، وذريتهم لأجيال قادمة. كان للقوة السورية إتقان تام لتوازن القوى الدولي ومعرفة راسخة بالقضايا عندما تعمل المعارضة الخارجية، بما في ذلك الأكاديميين الفرنسيين من عيار برهان غليون وبسمة قضماني، أو أحمد سيدا ورياض حجاب، هؤلاء مجرد أدوات تماماً مثل الإنسان الآلي ينفذون الأوامر التي تصدرها لهم السلطات الفرنسية. والأسوأ من ذلك أن بسمة قضماني، المتخصصة في العلاقات الدولية، تقدمت بنفسها خلال فترة ولايتها القصيرة للمتحدث باسم ما يسمى المعارضة السورية، للمطالبة بتطبيق الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة بشأن سورية، الذي يجيز استخدام القوة ضد بلادها، متجاهلةً حقيقة أن هذه الهيئة التابعة للأمم المتحدة كانت موطناً لاثنين من الحليفين الأقوياء لسورية وهما روسيا والصين، اللتان تمتلكان حق النقض “الفيتو”.

وفيما يخص تغطية الحرب على سورية من قبل الصحافة الفرنسية، أشار نبعة إلى أن

الصحف الفرنسية المهيمنة عملت كمضخمات لتسويق خطاب السلطة العدائي ضد سورية. فقد ارتكبت جريدة “ليبراسيون” أخطاء فادحة منها على سبيل المثال، عندما  وصفت زعيم المعارضة المدعو رياض حجاب، بأنه “رجل مهم”، عندما كان مجرد “رجل من قش”. أما صحيفة “لوموند”، فقد حولت أعمدتها إلى ثغرات تحوي مدونات سامة وخيالية، على شاكلة المدون نبيل الأنصاري، وهو مغربي –قطري متطرف، الذي ركزت أطروحته بالطبع على مفتي الناتو المليونير يوسف القرضاوي، الرجل الذي سيذكره التاريخ لتحريضه الناتو على قصف سورية، الدولة التي خاضت ثلاث حروب ضد “إسرائيل”. هناك رجل ثان قاتل تم تحريكه هو إغناس ليفرييه، رجل التشفير السابق في السفارة الفرنسية في دمشق، الذي تم الكشف عنه منذ فترة طويلة من بيروت، والذي أطلق عليه لقب “القزاز” لتمويه اسمه الحقيقي. يعتقد الفرنسيون أنهم أذكى من الآخرين، فهناك ثلاثة من المقيمين الفرنسيين السابقين في دمشق كانوا في طليعة الحرب الإعلامية وشكلوا أنف الادارة الكاذب، هم إغناس ليفرييه، و بيير فلاديمير غلاسمان، مدون في صحيفة “لوموند”، و فرانسوا بورغات، المدير السابق للمعهد الفرنسي للشرق الأدنى، و جان بيير فيليو، مؤلف كتاب “مرآة  دمشق” ، والذي سوف يسجل في التاريخ لمقارنته الحرب في سورية بالحرب في إسبانيا، مما أربك “الألوية الارهابية الدولية” ، الميالة  إلى الموت  للدفاع عن الجمهورية الفرنسية،  وإقامة “خلافة اسلاموية” رجعية من قبل المرتزقة الإرهابيين.

سورية تعترف بإستقلال دونباس .. لماذا هذا إلاندفاع؟

يرى رينيه نبعة أن هذا القرار هو رد طبيعي ومنطقي على الاحتلال الأمريكي الفعلي لشمال شرق سورية، ورد على تشجيع الأمريكيين على انفصال الأكراد عن هذه المنطقة النفطية. وأخيراً، رد على محاولة إحتلال إدلب الخاضعة للسيطرة التركية، وهي بؤرة لتجمع الإرهابيين الذين أتوا إليها بعد إخراجهم من المناطق التي حررها الجيش العربي السوري. تلقت فرنسا، الرئيس الحالي للاتحاد الأوروبي، للنصف الأول من عام 2022، العبء الكامل لهذين الحدثين الدبلوماسيين (ضم دونباس واعتراف سورية بها)، بينما كانت تتراجع إلى شمال مالي، متخلية عن مشروع إقامة دولة كردية في محافظة الرقة شمال سورية. وكان الرئيس الفرنسي السابق للاتحاد الأوروبي، نيكولا ساركوزي، قد عانى هو الآخر من خيبة أمل مماثلة في جورجيا في 8 آب 2008، مع ضم أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية.

يا له من اذلال لاذع لفرنسا حيث إقترن اعتراف سورية بدونباس بزيارة الرئيس بشار الأسد إلى أبو ظبي في 20 آذار 2022، وهي أول زيارة للرئيس السوري لدولة عربية منذ الحرب التي أطلقها التحالف الإسلامي- الأطلسي ضد بلاده قبل اثني عشر عاماً.

ويضيف الكاتب إن العداء المتبادل بين فرنسا وسورية يعود في جذوره إلى استعمار سورية ومعركة ميسلون، حيث دفعت خيانة فرنسا خلال مفاوضات سايكس بيكو وزير الدفاع السوري، يوسف العظمة، شخصياً، إلى حمل السلاح ضد الفرنسيين في معركة ميسلون (1920)، حيث استشهد فيها وكانت المعركة التأسيسية للوعي الوطني السوري. منذ ذلك الحين، صدت سورية فرنسا، وعارضت وجهاً لوجه كل هجماتها على الأراضي العربية، وقد شكل لواء إسكندرون بعد الحرب العالمية الأولى، خط الصدع الأول، حيث جاء رد سورية على فرنسا على ثلاث مراحل، ومن أشهر الأشياء التي لم تُقال في الدبلوماسية السورية، أن بتر لواء اسكندرون شكّل جرحاً سرياً كان بمثابة قوة دافعة للمطالب القومية السورية على مدى جزء كبير من القرن العشرين لدرجة أن دمشق رفضت لفترة طويلة تشكيل مجموعة صداقة فرنسية -سورية في مجلس الشعب السوري.

ومن ثم ستتاح لسورية الفرصة لإعادة العملة الفرنسية الى فرنسا في رد مائل من ثلاث خطوات المرة الأولى خلال حرب استقلال الجزائر في امتداد الضيافة التي حظيت بالزعيم الوطني الجزائري عبد القادر الجزائري. فكانت المجموعة الأولى من المتطوعين العرب الذين انضموا للثورة الجزائرية مجموعة من البعثيين السوريين الذين حركهم الشعور بالتضامن القومي العربي، ومن بينهم نور الدين الأتاسي رئيس الجمهورية، ويوسف زوين رئيس الوزراء، وإبراهيم ماخوس.

المرة الثانية، مع التحالف الخلفي الذي أبرم بين سورية وإيران خلال حرب الخليج الأولى في الثمانينيات. والمرة الثالثة: سيكون رد فعل سورية اللاشعوري على فرنسا هو حقيقة كونها بمثابة قفل عربي على لبنان وقبل كل شيء تشكيل استراتيجية طريق الإمداد الرئيسية لحركة المقاومة اللبنانية في جنوب لبنان، التي تشكل الكابوس المطلق “لإسرائيل” وحلف شمال الأطلسي والأنظمة الملكية البترولية مجتمعة. وإلى جانب التضامن الذي ظهر خلال حرب الاستقلال الجزائرية، فإن سورية والجزائر هما المحوران الرئيسيان للوجود الروسي الصيني في البحر الأبيض المتوسط ​​على الجانب الجنوبي لحلف الناتو. علاوة على ذلك، فإن الجزائر وسورية هما البلدان العربيان إلى جانب لبنان لتسيير سياسة خارجية تحافظ على المصالح طويلة المدى للوطن العربي، وبالتالي فهما شريكتان متميزتان للقوى العظمى المتنافسة والمعارضة للهيمنة الغربية، أي الصين وروسيا وإيران وجنوب أفريقيا بالنسبة للقارة السوداء.

خلال الحرب على سورية، لم يسافر إرهابي جزائري من الجزائر للقتال في سورية الى جانب الارهابيين المحليين والأجانب، حيث تم إغلاق القضية بحزم من قبل الأجهزة الأمنية في البلدين، ومع ذلك فإن الإسلاميين الجزائريين القلائل الذين قاتلوا في سورية هم جزائريون من الشتات.

وحول النتائج التي استخلصها الكاتب بعد عقد من الحرب، لفت ألى أنه في نهاية تسلسل السنوات العشر، استمرت الديمقراطية في التراجع في العالم العربي، لتدخل حقبة من الجليد، كما فعلت فكرة الديمقراطية ذاتها، بسبب خدعة ثلاثية: زيف الديمقراطيات الغربية الكبرى، وكذب فكرة الثورات العربية والتي  سممت  عقول و أدمغة عدد هائل من العرب بالفكر المتطرف السام إلى درجة التصرف مثل “الزومبي الإجرامي”، مما أدى إلى انتشار “الإسلاموفوبيا” على نطاق واسع في المجال الغربي. ويضيف أن روسيا تحل الآن محل فرنسا في دورها في حماية الأقليات المسيحية في الشرق، ومن دمشق بدأ فلاديمير بوتين استعادته لمكانة القوة العظمى والمحاور الأساسي، فدمشق هي التي تملك مفتاح منزل روسيا، وسورية الكبرى هي جزء لا يتجزأ من الكل الأرثوذكسي العظيم الممتد من الشرق إلى البلقان وروسيا “.