ثقافةصحيفة البعث

مع ميوعة الدلالات واستمرار الأزمات.. هل كانت الثّقافة رفاهية وتغريراً وكذباً؟

أن تأتي الحقيقة المرّة عن المثقّفين على لسان بعضهم، فهذا دليل على التّصالح مع الذّات، ووجود أهداف واضحة مع الواقع ورغبة في تغيير صحيح لم تسعفهم الظّروف الخاصّة والعامّة أو حتّى الإمكانيات لتحقيقها.

المثقّف والمثقّف الوطني والوطن والوطني وغيرها من المصطلحات كانت موضوع النّدوة التي أقيمت في المركز الثّقافي العربي بالمزّة مؤخّراً، إضافةً إلى الواجب الوطني المنتظر من المثقف واحتياجاته. يقول الدّكتور عاطف بطرس: كلّ شخص يتحدّث عن الحرية والدّيمقراطية والمواطنة والواجب الوطني، لكن عندما نسأله عن معناها لا يعرف، للأسف هناك وجهات نظر كثيرة.. نحن نعيش فوضى مصطلح وميوعة دلالية، لذلك عند تعريف الوطني لابدّ من تعريف الوطن، والوطن بالتّعريف الوارد في المناهج المدرسية، من ماء وهواء وتراب وعلاقة نفعية، لا يفي الوطن حقّه، فالمكوّن الأساس لمفهوم الوطن هو الأرض، وهذه حقيقة عرفها الشّاعر الجاهلي قبل آلاف السّنين عندما ربط الأطلال بساكنيها أو بالرّاحلين عنها، كذلك الّلغة والتّاريخ والعادات والتّقاليد والطّفولة والأحلام، لقد عشت في موسكو سنوات طويلة وعندما سُئلت ما هو الوطن قلت ومن دون فلسفة: الوطن هو الشّيء الذي أفتقده أينما كنت.. الوطن ترابه مجبول بدم أجدادنا وأبنائنا وأخوتنا، وهذا ما يشدّنا إلى هذه الأرض، وبذلك يكون الوطني هو من يحافظ على إرثه وأرضه ويدافع عنها، أمّا المواطن فهو من يعيش على هذه الأرض ويحمل جنسيتها، وبالتّالي فإنّ المخرّب لا يمكن أن يكون وطنياً.. هناك معايير لا يوجد ميوعة في تحديدها وفي لحظات يجب أن تتراجع الخلافات للحفاظ على وحدة الأرض والنّسيج الاجتماعي كي لا نفقد كلّ شيء ونحقق ما تسعى إليه الدّول الأخرى.

ويتابع بطرس: لا يمكن الحديث عن المثقّف من دون الحديث عن الثّقافة. منظمة اليونسكو سجّلت أكثر من مئتي تعريف، لكن التّعريف شبه المقرّر هي حاجات وتقاليد وأدب وفنون وعمارة وعادات ولباس وطعام، كلّها مظاهر تدلّ على شعب محدّد بمرحلة تاريخية معينة تدلّ على ثقافته، وبهذا المعنى يصبح كلّ إنسان مثقّفاً بحجم حاجته لهذه الثّقافة، والثّقافة ليست جمعاً كميّاً لمجموعة من المعارف، كما أنّها لا تخوّل المثقف إعطاء موقف أقرب إلى الصّحة، وعليه فإنّ المثقف هو الإنسان الذي يمتلك مجموعةً من المعارف والمعلومات المتكاملة المتفاعلة التي تخوّله اتّخاذ موقفٍ صحيحٍ في الحياة، وهذا يحتاج ما يُسمّى حوارية المعرفة، وهنا نأتي إلى دور المثقّف وهو مرتبط بالمرحلة التّاريخية الموجود فيها وبالأرض التي يعيش عليها والمشكلات المحيطة به، والثّقافة هي نمط سلوك وطريقة تفكير ولا تأتي فقط من الكتابة والقراءة، هناك من لا يقرأ ولا يكتب لكن من خبرته وتجاربه يدهشنا بسعة معرفته وسلامة أحكامه في سياق ما يحتاج إليه.

بدوره، يقول الدّكتور عبد الله الشّاهر: الثّقافة عملية منتج وإنتاج وتبادلية وتناغمية بين المثقّف والثّقافة والمجتمع وما ينتجه من سلوكيات وما يعكسه هذا المنتج على حياة الأجيال الحالية والقادمة، لكن هل المؤسّسات الثّقافية التي يكون من خلالها المثقّف تعي دوره وتقدّم له احتياجاته؟ لقد مررنا بتجربةٍ قاسيةٍ منذ عام 2011 وإلى يومنا ونحن نعاني، لكن لماذا حدث ذلك؟ هل صدّرنا كمثقفين الحقيقة إلى أجيالنا أم كنّا نكذب على أنفسنا حتى وصلنا إلى ما نحن عليه؟ لقد كانت الثّقافة في حياتنا هي ثقافة تغرير وليس تحقيق.. عندما نقول إنّنا أثّرنا في الآخر يجب أن نشاهد نتائج هذا التّأثير في سلوكنا وصدق مشاعرنا.

ويبيّن الشّاهر الإشكالية بين الثّقافة والسياسة، يقول: انتهت العمليات العسكرية، لكننا ما نزال في حرب اقتصادية وثقافية، ونحن أمام إشكاليات كثيرة منها التّضاد الحادّ بين السّياسي والثّقافي، فالثّقافة في سورية هامشية ولا تؤثّر في السّياسي.. في كلّ دول العالم الثّقافة تتكلّم عمّا يجب أن يكون والسّياسة تتحدّث عمّا هو قائم ويتمّ التوليف بينهما ليكون هناك قرار سياسي، أمّا نحن فلا نأخذ بهذا الجانب، لذلك فإنّ الثّقافة لدينا حالة ترفيهية في المجتمع وليست بنيوية تهدف إلى خلق مجتمع متماسك عبر منظومة أخلاقية تؤسّس لها بشكلٍ دقيقٍ، يجب أن نشتغل مع ثلاث وزارات حتّى نستطيع تحقيق ذلك هي وزارات التّربية والتّعليم العالي والأوقاف، أمّا وزارتا الإعلام والثّقافة فهما صدى لهذه الوزارات.

ويتعمّق بطرس في حال الثّقافة والمثقفين أكثر، فيوضّح: لماذا همّشت الثّقافة في بلدنا؟ ما يصرف على الثّقافة يسير، ومع ذلك تبقى وزارة الثّقافة في سورية من أكثر الوزارات نشاطاً في الوطن العربي، أمّا مجمل العملية الثّقافية فلا يوجد تنسيق بين حواملها.. علينا إعادة النّظر فيما تعلّمناه وتربينا عليه وتحرير عقولنا من مفاهيم كثيرة، نحن نعيش مرحلةً عصيبةً لم تشهدها سورية في تاريخها المديد وتتطلّب من المثقّف بوصفه يمتلك منهجاً في التّفكير وطريقة في السّلوك، وهنا لا نفصل التّفكير عن السّلوك، فما حاجتي إلى مثقّف يتحدّث عن آخر ما توصّل إليه العالم وهو يسرق ويكذب؟ وإن أردنا الحديث في تكوينه البنيوي فهو مأزوم داخلياً لأنّه يعيش تناقضاً حادّاً بين بنيته الفكرية وواقعه، وحاله كحال المثقفين في العالم يعاني تضخّم الأنا لأنّه يعدّ نفسه مميزاً وبحاجة للرّاحة، ويعاني النّفاق، فعلاقته مع باقي المثقفين سيئة جدّاً لأنّه ابن بيئته ويحمل خصائصها وأمراض المثقفين العامّة، مضيفاً: هناك مكبّلات تمنع المثقّف من أداء دوره الحقيقي في المجتمع كرائد ومحلّل ومستشرف ومفكر غير متوافرة بشكل يليق بمكانته في المجتمع.. كيف يمكن للمثقّف أن يمارس دوره إذا كان حقّه في الكلام مصادراً، أو إذا كان لا يمتلك حرية تفكير وتأمين متطلبات الحياة، كيف له أن يؤدّي دوره وهو يفكر بالخبز والغاز والأكل. نحن هنا لا نتحدّث عن الامتيازات.

ويضيف الشّاهر على تلك الاحتياجات: نريد ثقافةً وطنية تتسمّ بالدّيناميكية، وزارة الثّقافة بكلّ مؤسّساتها في المحافظات لا تستطيع أن تؤثّر إن لم يكن هناك مناهج ثقافية موازية للفعل التّربوي التّنموي الذي تخلقه مؤسّسات التّربية، هذه الثّقافة سريعة التّكيّف ويجب أن تؤخذ من أجلها القرارات، بمعنى أنّنا نتحدّث اليوم وانتهى الحديث هنا وكأنه لم يكن!. في الولايات المتّحدة الأمريكية مكاتب خاصّة تلخّص ما يدور في النّشاطات الثّقافية والفكر السّياسي وترسله إلى مراكز القرار السّياسي، ومن ثمّ يحوّل القرار من الكونغرس إلى البيت الأبيض لإقراره وممارسته، أمّا نحن فليس لدينا مكتب للدّراسات نهائياً.

وينوّه الشّاهر بأنّ مرحلة الشّباب هي المرحلة الأكثر نشاطاً في حياة الإنسان فكرياً وثقافياً واجتماعياً، متسائلاً: ماذا فعلت وزارة التّعليم العالي اليوم؟ هناك نقص في دكاترة الجامعة ولم تفعل أي شيء، مذ كنت طالباً في الجامعة إلى يومنا هذا لم أرَ أي خطّة ثقافية لاتّحاد الطّلبة، للأسف جامعاتنا إلى اليوم تطالب طلّاب الماجستير والدّكتوراه بمواد وكأنّهم طلّاب مرحلة ابتدائية.. لماذا نتسيّد على الطّالب لكي لا يلمع ويصبح نسخةً عنّا، بينما اليوم الجامعات الأوروبية تفكّر بتعليم افتراضي؟.. نحن غير قادرين على ضمّ طاقات البلد بالصّورة المثلى، بل إنّنا نبعثرها، وهذا يحتاج إلى وسائل حديثة ونقل الأهداف وتحويلها إلى واقع ملموس وتقويمه ومعرفة النّتائج وممارستها في الحياة وإلّا فإنّ كلّ هذا الكلام خسارة، كما يجب أن ننفتح على العالم ونعرف آخر منجزاته ودواعيه الفكريّة، نحن بحاجة إلى تنظير ثقافي جديد ومؤسّسات ثقافية توازي هذا التّنظير، وعلينا أن نؤمن بمسألة التّنوّع الثّقافي وأن نحيي البعد الإنساني المغيّب في حياتنا.. أنا أختلف في الفكر مع أحد الأشخاص، لكن هذا لا يعني أن نصبح أعداء، كما يجب تنقية المناهج من الفكر الذي خرّج لنا الكثير من العاهات.

نجوى صليبه