مجلة البعث الأسبوعية

بكين- واشنطن– لندن.. فخ “تايوان” كاستعادة أمريكية لـ”حرب الأفيون” البريطانية

البعث الأسبوعية- أحمد حسن

لم يعد تزايد النزعة العدوانية للسياسة الدولية مجالاً للنقاش فـ”الصراع” انتقل إلى المستوى العسكري “المباشر” منذ اللحظة الأولى التي اجتازت فيها القوات الروسية الحدود الأوكرانية، وإذا كان الجدال هنا متعلق بـ”الضرورة” أو “الاختيار”، أي الاستدراج الأمريكي الفاجر أو “العدوانية” الروسية الكامنة، فإن أحداً لا يختلف على القول إن “قشة” ما يمكن لها أن تأخذ الأوضاع باتجاه لا يمكن التنبؤ به أو السيطرة عليه، وهي “قشة” يبدو أن واشنطن التي أشعلت طرفها الأول -كما يقول الكثيرون- في أوكرانيا لتوريط روسيا فأشعلت أوروبا بأسرها، تسعى اليوم لإشعال طرفها الثاني في تايوان لتوريط الصين، لكنها هذه المرة قد تشعل العالم كله.

بهذا المعنى يقرأ المتابعون، ومنهم أمريكيون أيضاً، سابقة خروج الدبلوماسية الصينية، للمرة الأولى عن حذرها المعهود وتهديدها الفعلي بـ”البندقية”، باعتباره حدث لن يكون عابراً في السياسة الدولية خاصة وأنه لم يأت، فقط، كرد “كلامي” على كلام الرئيس الأمريكي “جو بايدن” خلال جولته الآسيوية الأخيرة حول استعداد بلاده العسكري للدفاع عن تايوان في حالة مهاجمتها من قبل الصين، بل كان إعلاناً “حربياً” عن نفاذ صبر صيني على مسار طويل، سياسي وتسليحي، لم يبدأه “بايدن”، وإن كان يحاول أن يكتب خاتمته.

رسائل دافوس!!

والحال فإن رسائل الحرب “الكبرى” والتحذير منها تبودلت بكثرة خلال الأعوام الماضية، وقد حفلت منصة “مؤتمر دافوس” بالحصة الأكبر، والأخطر، منها، فخلال فعاليات “المنتدى”، السابق وليس الحالي، كان الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” قد شبّه وضع المجتمع الدولي حالياً بمرحلة ما قبل الحرب العالمية الثانية، وكانت تلك رسالة واضحة، فيما طالب “هنري كيسنجر”، حكيم العالم الغربي، خلال فعاليات المنتدى الحالي، بحل الأزمة الأوكرانية سريعاً، وتلك رسالة واضحة أخرى، فالرجل، كغيره، يحذر من حقيقة أن الحروب الصغرى، أو الحروب بالوكالة، لم تعد ذات مردود مفيد في تقرير مصير العالم، قيادة وقاعدة، وبالتالي لا بد من حدوث حرب كبرى تحسم شكل القرن الحادي والعشرين ومرجعيته السياسية وبالتالي الاقتصادية أولاً وأخيراً.

مقدمات استفزاز الصين

لم يكد صيف عام 2021 يقترب من الانتهاء حتى كان “بايدن” قد انتهى من “حياكة” حلف باسم “أوكوس”، يضمه مع استراليا وبريطانيا، لمواجهة الصين باعتبارها، وفق التصور الاستراتيجي الأمريكي، العدو الأكبر في المرحلة الحالية والقادمة، وبطريقه، أسقط حليفاً تاريخياً كبيراً مثل فرنسا، وغازل، عدواً تاريخياً أيضاً مثل روسيا لتحييدها على الأقل في هذه المعركة، وتلك سياسة لم تجد من يعبر عن “غرابتها” أفضل من صحيفة “ذي إيكونوميست” التي وصفتها بالزلزال الاستراتيجي بحيث يمكنك كمشاهد “رؤية الصفائح التكتونية للجغرافيا السياسية وهي تتحرّك أمام عينيك”، فمنذ نهاية الحرب العالمية الثانية، لم يدفع تحدٍ ما مهما كانت خطورته بالعقل السياسي الأمريكي للتضحية بدولة مثل فرنسا التي أصبحت –أمام التحدي الصيني- وبحسب محلّل سياسي غربي “تعدّ، لسوء الحظ، أضراراً جانبية”!!.

هنا يمكن الإشارة إلى “حرتقات” داخلية، فبريطانيا، وهي الدماغ الاستعماري لواشنطن، لا تمانع إضعاف فرنسا في سياق الحرب مع الصين، لكن الدولة التي تعد اليوم “رائدة” تعميق “التفكير في تحديد المفهوم الاستراتيجي الجديد لحلف شمال الأطلسي”، أي التوجه نحو الصين أولاً باعتبارها “عدو البشرية الأول”، كان لها السبق، حين كانت الزعيمة الكبرى للغرب، في شن حرب مدمرة سميت بـ”حرب الأفيون” في سياق المحاولة الغربية الدائمة لكبح الصعود الاقتصادي المخيف للصين الاقتصادي الهائل وإذلالها وإبقائها تابع طرفي ضعيف للرأسمالية العالمية.

ما يعنينا أن الجميع في الغرب أصبح “تحت السلاح” الآن لذلك كان من “الطبيعي” أن ينخرط الإعلام الحرّ!! في المعركة، فأصبحت الصين، بكل حضارتها ونجاحها الاقتصادي في إخراج مئات الألوف من البشر من ربقة الفقر، مجرد “غول” آسيوي يريد ابتلاع الغرب، بثقافته واقتصاده وقيمه، بل إنها مصدر الشرور والأوبئة المدمرة، مثل “كوفيد19″، أو “الفيروس الصيني”، كما أراد “ترامب” أن يزرع في وعي البشرية الجمعي.

وأكثر من ذلك فإن “خطورتها”، كما يُراد لها أن تبدو، تتجاوز ذلك إلى خطر حال -و”احتمال حقيقي” كما وصفه الأدميرال تشارلز ريتشارد رئيس القيادة الاستراتيجية- لإفناء البشرية كلها عبر السلاح النووي، فهي، مع روسيا، كما قال لن تتورع عن استخدامه، “إذا اعتقدوا أنه في حالة هزيمتهم باستخدام السلاح التقليدي هناك تهديد للنظام السياسي القائم أو الدولة”.

وللحق فقد ساهم بعض الإعلام الصيني بمنح هذا التهديد شيء من الصحة حين أشارت صحيفة “غلوبال تايمز” الرسمية الصينية، نقلاً عن مصادر عسكرية في بكين، عن احتمال “تعرّض أستراليا لضربة نووية في حال اندلاع حرب نووية”، وبالطبع فإن عبارة، “في حال”، لم يلتفت إليها أحد.

لذلك وأمام كل هذا الاستفزاز والاستعصاء العالمي الراهن كان من الطبيعي أيضاً أن ترافق “نصيحة” المتحدث باسم الخارجية، وانغ وين، للولايات المتحدة بالاستماع إلى أغنية صينية قديمة مشهورة تقول إنه عندما يأتي صديق، يتم الترحيب به بنبيذ جيد، وعندما يأتي ابن آوى، يرحب به ببندقية الصيد”، جملة لا تفسير آخر لها ومفادها: واشنطن ستدفع ثمناً “لا يطاق” لموقفها من تايوان.

إنه الصراع التاريخي بين الامبراطوريات الصاعدة والمنحدرة على قمة العالم يعاود منحاه التراجيدي الحتمي.

عودة إلى كيسنجر

هذه الحتمية تقودنا فوراً نحو “هنري كيسنجر”، حكيم العالم الغربي، واستعادة حرفية لمقطع سابق يقول إن الرجل يعتبر إن للإمبراطوريات “تراجيديتها الحتمّية” فالإمبراطوريات إما تسقط، كما روما، أو تضعف، كما بريطانيا، وكي لا تواجه بلاده مصير الطرفين يجب عليها أن تعتنق “فلسفة السياسية الواقعيّة” التي تستهدف “بناء توازنات للقوى الدوليّة تضمن عقلنة الصراعات”، الأمر الذي يتطلب منها “استخدام طرائق غير القوّة العسكريّة المحض لتمديد الهيمنة”، وهي، عند “كيسنجر”، بناء توازنات لقوى متقاطعة ومتنافسة في نوع من نظام عالمي يضمن أن أياً منها لن يكون قادراً على مواجهة الولايات المتحدة في أي وقت قريب. مثلاً: التنسيق مع روسيا ضد الصين والعكس صحيح.

بيد أن حكماء واشنطن الجدد ذوي النزوع الامبراطوري يبدو وكأنهم يستعدون الأطراف كلها في آن واحد، وهنا الطامة الكبرى والخوف من خطأ –قد يكون نووياً- في التقدير والتدبير.

خاتمة

بالمحصلة، واشنطن لن تترك بكين تواصل صعودها بسلاسة، هذا أمر محتوم ومعروف، وهي بدأت ببناء “فخ تايوان” كاستعادة “ناجحة” لـ”حرب الأفيون” البريطانية، لذلك تبذل، بحسب الناطق الرسمي الصيني “قصارى جهدها في التلاعب بالكلمات بشأن مبدأ الصين الواحدة”، لكنه، وهنا الرسالة، أضاف: “أريد أن أذكر الجانب الأمريكي بأنه لا توجد قوة في أي من أنحاء العالم، بما في ذلك داخل الولايات المتحدة نفسها، يمكنها تجنيب الداعين إلى استقلال تايوان الهزيمة”.

الصين وروسيا تردان في كل مكان ممكن، الفيتو المزدوج الأخير في مجلس الأمن الدولي لإسقاط قرار كوريا الشمالية معبّر جداً، لكن الأمر يحتاج إلى نقل “الحرائق” إلى حديقة العدو حينها تبدأ ملامح النصر بالظهور.