ثقافةصحيفة البعث

هل تُحتضر “دام قلمك” لتحيا “دامت لوحة مفاتيحك”؟!

كنتُ أحتفظُ ككثير من أبناء جيلي بقلم ودفتر ملاحظات صغير، أنتقي غلافه بعناية فائقة، دوّنت عليه خطّة عمل يومية وشهرية كنت ألتزم وأنجح بتنفيذ قسم كبير منها.

“خطّك جميل”، عبارة كنت أسمعها مذ كنت على مقاعد الدّراسة، ولاسيّما أنني لا أدعُ شدّةً تهرب منّي لدرجة أنّ بعض زملاء العمل – لاحقاً – صاروا يشتكون من دقّة الفواصل والنّقاط وعلامات الاستفهام والتّعجب، وفي أوقات أخرى تنوين النّصب والجرّ والرّفع.. لم أكن في البداية لأهتمّ بنوع القلم لكنّي صرت أنتقي نوعاً من نوعين اثنين كانا موجودين آنذاك، لحين ظهور ماركة أقلام جديدة ارتحت للونها ولكثافة حبرها، وكنتُ كلّما كتبت مادة صحفية أعيدها أربع مرّات وأدققها لغوياً ونحوياً وفكرياً وكان التّعليق الأوّل حينها: “دام قلمك”.. كانت قبل عشر سنوات عبارةً واقعيةً لا افتراضية على جدران الأزرق، كما اليوم تُقال وكأنّها ضحك على اللحى ومن دون دراية أو معرفة.. فأين هو القلم الذي نحتضنه بأناملنا ونكتب به حواراتنا ومقالاتنا وتغطياتنا للفعّاليات والأنشطة الثّقافية لأدباء وكتّاب هم أيضاً لا يستخدمون الأقلام في رسم شخصيّات رواياتهم أو نظم قصائدهم، بل اقتصر استخدامها على كتابة بضع كلمات خاوية من أي إحساس لأناس حضروا حفل توقيع كتبهم، طبعاً نستثني هنا الأصدقاء الذين يخصّونهم بكلمات نابعة من وحي تفاصيل وذكريات جمعتهم.

وفي وقت نقرأ بتمعّن مقولة الفيلسوف كونفوشيوس: “إنّ أضعف حبرٍ يُكتب به القلم لهو أقوى من أقوى ذاكرة إنسانية”، نتحسّر على أنّ حياتنا – على اختلاف مشاربنا – صارت لوحة مفاتيح على حاسوب كبير، أو لمسة سحرية على “لابتوب” أو جوّال، ندوّن الأسماء والصّور والذّكريات والقصائد والأخبار والرّوايات، غير منتبهين إلى أنّ ذاكرة هذه الأجهزة غبارية تذوب بفيروس صغير، ومعها يذوب كلّ شيء، ناسين أو متناسين أنّ كلّ الحضارات وثّقت معظم علومها وأدبها بالقلم والحبر على الجدران والبرد والقماش، وثائق ما تزال البعثات الأثرية حتّى اليوم تدهشنا بها على امتداد الأرض، وإن تحدّثنا عن الأدب تحديداً، فحسب ما وصلنا وقرأنا كان أكثره موثّقاً بالقلم على اختلاف تسمية هذه الأداة عبر العصور والأزمان؛ ولن ننسى أن كثيراً من الشّعراء تغنّوا وتفاخروا بالقلم ونظموا في وصفه قصائد راسخة في الذّاكرة الجمعية والفردية، ولعلّ البيت الذي ذكر القلم والأكثر شهرةً وتداولاً على الألسنة هو للشّاعر المتنبي (915 م –  965 م)، وفيه يفاخر بقلمه وبمعرفة النّاس به من خلال ما يخطّ هذا القلم، يقول:

الخيـلُ واللّيـل والبيـداءُ تعرفُنـي  والسّيفُ والرّمحُ والقرطاسُ والقَلمُ

وفي قصيدة أخرى يصف القلم فيقول:

خَبت نارُ حربٍ لم تهجها بنانُهُ  وأسمرُ عُريانٌ من القِشر أصلعُ

الشَّوى يعدو على أم رأسه      ويحفى فيقوى عدوه حين يُقطعُ

يمجُّ ظلاماً في نهار لسانه      ويُفهم عمّن قال ما ليس يُسمعُ

وقبله نظم الشّاعر “أبو تمام” في وصف القلم (803-845)م، قصيدة نختار منها:

لك القلم الأعلى الذي بسنانه      يصاب من الأمر الكلى والمفاصل

له ريقة طلّ ولكن وقعها          بآثاره في الشرق والغرب وابل

فصيح إذا استنطقته وهو راكب   وأعجم إن خاطبته وهو راجل

إذا ما امتطى الخمس اللطاف وأفرغت  عليه شعاب الفكر وهي حوافل

أطاعته أطراف القنا وتقوضت   لنجواه تقويض الخيام الجحافل

أمّا اليوم، وتبعاً لمتطلبات الحياة المهنية، فقلّة من الأدباء يخطّون منتوجهم الأدبي بخطّ اليد، وربّما نسي البعض كيف يمسك القلم ويكتب به، ومثلهم نحن في الإعلام كان علينا مواكبة التّطوّر التّقني بما يخدم سرعة نقل الخبر وإيصاله وسهولة العمل، لدرجة أنّنا لم نعد نستخدم القلم إلّا للتّوقيع على المعاملات الرّسمية أو رسم خطّ ملوّن تحت سطر أعجبنا من رواية ما، لدرجة صرت كلّما قرأت عبارة “دام قلمك” على وشك أن أردّ على كاتبها بعبارة: “قل دامت لوحة مفاتيح الحاسوب و”تاتش” الجوال..”.

منذ سنتين تقريباً أنشأ بعض محبّي اللغة العربية والخط صفحةً على شبكة التّواصل الاجتماعي “فيسبوك” طلبوا فيها من الجميع أن يرسلوا صوراً لكتاباتهم بخط اليد، وهكذا أصبحت جميع المنشورات عبارة عن صور لأوراق كتب عليها أصحابها ما خطر على بالهم وما أحبّوا، وبعضاً من شعرهم وسطوراً من رواياتهم، وللأسف لم تعد هذه الصّفحة موجودة ككثير من الصّفحات، لكن يذّكرني فيها الشّاعر صقر عليشي الذي ينشر بين الحين والآخر على صفحته في الـ”فيسبوك” صوراً لأوراق خطّ عليها قصائده بحبر أزرق يكاد ينطق.. لا أدري ربّما صار لزاماً علينا أن نغيّر في بعض تعابيرنا بما يتوافق والأدوات التي نستخدمها.. صحيح أنّ كلّ هذه الاختراعات لم تحلّ محلّ الكتاب والقلم والورقة، لكن لا بدّ من الاعتراف بأنّها قلّلت من استخدامها عند الغالبية إن لم نقل الجميع.. أعود وأستحضر هنا ما قاله المتنبي عندما وجد أنّ النّاس تهتمّ للسّيف لا للقلم:

حتّى رجعتُ وأقلامي قوائلُ لي  المجدُ للسّيفِ ليس المجد للقلمِ.

نجوى صليبه