مجلة البعث الأسبوعية

التعبير والرمز في فن الكاريكاتور

البعث الأسبوعية- رائد خليل

يبدو أن قضية الابتكار عند الفنان تثير إشكالية كبيرة في ولادتها، فالحالات التعبيرية للفنان المفتوحة على فضاءات من الترقب والتفكّر، هي اشتقاقات حدسية وتوءمة مع نوافذ المخيلة وفضائها.

والحديث عن الابتكار في ميادين التلاقح المعرفي والفكري، يحتاج إلى الخروج عن النمطي والشكلي في مسيرة البحث عما هو مخفي في عالم المكونات التشكيلية ومقاماتها، وتلبية الرغبات الذاتية بعيداً عن السائد، أو لنقل عما يُقدَّم.
نعم، إنها رحلة البحث عن الفكرة، رحلة البحث عن الإنسان، ومن ينكر أنّ الإنسان هو بحدّ ذاته فكرة عظيمة..؟ ومن منكم لم يسمع بـ”ديوجين” صاحب الفانوس الشهير..؟.

تقول القصة الفلسفية: إنّ بعض الأشخاص قالوا باستغراب: هل رأيتم هذا الرجل الغريب؟ قالوها معاً!. بعضهم قالها بهمس، والآخر قالها بصوت عالٍ! ورجعوا بعد ذلك يسألون أنفسهم: ولماذا نحن متفقون على أنه غريب؟ فأجاب أحدهم: ربما لهيئته الغريبة!.. وقال آخر: ربما لاندهاشه وحيرته بكل شيء من حوله! واقترب آخرون من الحس الإنساني قائلين: ربما لأن لديه من المعرفة والإدراك ما لم يجده في تفاصيل الحياة.

واقترح بعضهم خوض التجربة الاستطلاعية قائلين: لماذا لا نذهب إليه بأنفسنا ونسأله عن حاله؟ واتفقوا على هذا الرأي .ذهبوا واقتربوا منه، وبعد التحية سألوه: ما اسمك يا رجل؟ قال: ديوجين. وسأله أحدهم: ولمَ تحمل هذا السراج؟ فأجاب: لأستعين به في بحثي عن نور الإنسان!. بعد ذلك نظر الجميع إلى بعضهم بحيرة أشد من ذي قبل، وبصوت واحد: فعلاً إنه غريب!. سأله آخر: ولكن يا ديوجين هل تطول رحلتك في البحث عن الإنسان الذي تنشد؟.
أجابه: ربما تطول وربما تقصر، ولكن إذا وجدته فسوف أعلنه لكم.

تفرّقوا من حوله وفضّلوا الابتعاد حتى لا يتحطَّم جمودهم وعاداتهم وسـلوك حياتهم، ومن جهة ثانية لعدم قدرتهم على مسايرة تفكير هذا الإنسان الحكيم، واستمر ديوجين في رحلته وبحثه.

الصرخة و التعبير الموحي

“كنت أسير مع صديقين لي على طول الطريق، الشمس تغيب، فجاءة تحوّلت السماء إلىشرايين من الدم القاني، كانت عروق ودماء من النار تطفو على سطح الماء الأزرقالقاتم فوق المدينة، تابع صديقاي السير، بينما توقفت أنا مرتعشاً قلقاً، كأن صرخة مدوّية تسري عبر الطبيعة من حولي”. طبعاً هذه هي قصيدة مشهدية الحب والحياة والموت، قصيدة الصرخة محمّلة بحقائق جمالية ومأساوية عبّر عنها
“إدوارد مونش” أصدق تعبير.

كثيرة هي الرموز الدالة والأفكار المطروحة في الفن عموماً، وفي فن الكاريكاتور خصوصاً، وكثيرة هي الحالات التعبيرية التي تترك المجال لبوح متناسل من عمق بنية المفردات الشكلية المتجانسة مع ذاكرة الفنان التي تتفجر نبوءة توحي بمضمون حقائق الواقع.

ويبدو أنّ الحالات التعبيرية تشكّل سيادة قول منطقي قصدي وتخييلي بإيقاعات تخييرية لها دلالاتها الحسيّة في طرح الممكن فتتجاوز حدود الإطار الشكلي وتعرض شريطاً مصوراً تعكس فيه واقعاً موغلاً في الزمن السرمدي بحيث يتكشّف الحاضر ويُستشرَفُ المستقبل.

إذن، هو التعبير الموحي، فالبوح لم يتغيّر، ولكن المتغيرات المادية جعلت هذا المفهوم مسكوناً بقدرة الفنان على التوصيل المتآلف مع متن عمله. فمن جدران المعابد إلى أعمدة الصحف، ثمة مفردات مشدودة لوقائع تغيرت شكلاً بحكم التطور التقني وزركشاته اللونية التي تملي إبهارها. ومنذ خمسة ملايين سنة قبل الميلاد صعد طائر إلى أعلى الشجرة بوساطة السلم على الرغم من وجود الجناحين وكان خياره أن يهبط تحت وقع خفقان جناحيه؟!. والأمثلة كثيرة في هذا السياق التعبيري الذي ينقل المتلقي إلى لحظات الحلم وتجلياته المنطقية.

ويحق لنا في هذا السياق أن نطرح التساؤل التالي: هل التعبير عزف منفرد لنظرة أحادية غارقة في تأويلات فردية ؛ أم هو سير على حافات رصيف المفاهيم الفنية المتعارف عليها. وقد يختلف كثيرون في توصيف الحالات المحتملة من مشاهد ورؤى، فمنهم من يرى في التعبير عملية خلق بثياب جديدة لإثارة التصورات، ولكن “براك” يعارض هذا المفهوم بقوله:” إنّ الرسام لايحاول أن يعيد خلق وضع ما،وإنما يحاول أن يبني حقيقة متخيلة”.

إذن، بين حوارية الخلق وبناء الحقيقة المتخيلة محاكاة جدلية لرؤى وأحاسيس تأخذ مداها المجدي في طرق بوابات التأمل والفهم والتعرف استناداً إلى حدس قد يكون تأسس معرفياً.
إن كمّاً من رموز ومحددات إشارية مهمة تزخر فيه اللوحة الكاريكاتورية في حوارية مفتوحة على جهات التعبير الكاريكاتوري، وقد تشكّل تلك الرموز المتداعية عملية جمعية تتجاوز حدود اللوحة الشــكلية وإطارها، وقد تأخذ منحىً خطابيّاً واقعيّاً أو ميتافيزيقيّاً.

إنّ قدرة المتابع أو القارئ على الكشف والتحليل وحتى التأويل، ما هي إلا مساءلة مخفية ومواجهة صريحة مع نقيضين إشكاليين في فن الكاريكاتور، هما: المخفي والمرئي.

وتُتَّهمُ الأعمال التي تندرج في سياق التعبير المفرط أو الكاريكاتور الفلسفي بالغموض الموسوم بسرد ذاتي مفرط يحدُّ من وتيرة التلقي والاندماج مع سرديات النص التشكيلي المفتوح على تأويلات متوالدة. وأما المرئي وملامحه، فيبدو للوهلة الأولى كأنه مكونات ورسائل بصرية تدور في فلك الانطباع الأولي الذي يختزل مســافات طويلة من البحث واستيعاب المحرّض العقلي الذي يفرض جرَّ الفن ليتماهى مع أحداث وشخصيات الواقع المعيش.
ويشكّل الاستدلال والبحث في مضامين العمل الفني حالة من التحليل المنطقي إذيتم تركيبه ليخدم متطلّباً ما.

ويبدو أنّ العائد المعرفي يحتاج إلى مقدمات يقينية، ومن دونها ينفتح اتجاه على طريق الغرق التأويلي، والالتفاف في متاهة دائرة الاستنتاجغير المنطقي، وهذا يعني الفنان أكثر من غيره، وبمعنى آخر يتساءل بعضهم عن رموز العمل الكاريكاتوري وتوجهاته المفهومية، فيلجأ الفنان مضطرّاً إلى طرح أحجية قد يكون فكّ رموزها صعباً عليه وليس مستحيلاً، فيلجأ في كثير من الأحايين إلى شخصنة مصطلحات جديدة دون مراعاة تصور الآخرين.

وهنا لابدّ من القول إنّ استيعاب المضامين يمر بمراحل، أولها: معرفة المصطلحات التي غالباً ما تُستورد من ثقافات متعددة بعيدة عن مناخنا الثقافي وصولاً إلى حالة التلاقح والتمازج في حقل المعرفة الواسع، حيث يتأكد ارتقاء الفن الشمولي والكوني.

ولاحقاً، تُشكّل الرموز والاشتقاقات في فن الكاريكاتور معيناً وإقراراً بمرونة هذا الفن وسلاسته وقابليته ليكون فناً حضارياً عالمياً.

ولكن، قد يسأل بعضهم باستمرارٍ عن فكرة العمل الكاريكاتوري ورسالته الإيحائية في محاولة استسهالية خوفاً من تقييمهم الخاطئ لقول مفردات العمل الفني؟.

هنا، لابد من أن نؤكد أهمية البحث المعرفي الثقافي الدائم الذي يوفر مناخاً خصباً في استذكار العناصر الحياتية والبحث عن حقائق بنية العمل الفني وألغازه الكامنة في تفاصيله. وهذا استنتاج جمالي يقوم على المقاربة مع الأفكار المختلفة، واستحضارمعانيها.