مجلة البعث الأسبوعية

انتهت العولمة وبدأت حروب الثقافة العالمية  البشرية إلى لحظة “بريتون وودز جديدة”.. بيئة دولية أكثر تعقيداً لإعادة تشكيل النظام العالمي

البعث الأسبوعية-عناية ناصر

أدت الحرب الروسية الأوكرانية إلى تسريع التوجهات نحو نظام عالمي جديد، تكون فيه الصين لاعباً رئيسياً، كما يقول الدكتور وانج هوي، مدير مركز أبحاث الصين والعولمة  والمستشار السابق للحكومة الصينية، فمن وجهة نظره، يجب ألا يسعى الغرب إلى “احتواء” الصين الصاعدة، بل يجب أن يتعلم التعايش معها، وخاصة من وجهة نظر اقتصادية.

لقد باتت العولمة على مفترق طرق، حيث تحدى الصراع الروسي الأوكراني الذي اندلع في شباط الماضي النظام العالمي بعد الحرب العالمية الثانية. ومع ذلك، بمعنى أوسع، فإن إعادة تشكيل النظام العالمي الحالي هي نتيجة حتمية للتنمية الاقتصادية العالمية، والتقدم التكنولوجي والتطور الطبيعي لمشهد الطاقة العالمي. ففي ظل نظام “المركز والأطراف”، أدى التدفق المعولم للموارد والتكنولوجيا، ورأس المال والأفراد إلى تمكين الاقتصادات الناشئة من النمو بشكل أقوى، بينما أدى إلى  ضعف البلدان المتقدمة في المركز، فتكلفة الحفاظ على موقع قوتهم الحالي عن طريق قمع المنافسين آخذ في الارتفاع، وقد أدى ذلك إلى إلحاق الضرر بالائتمان الخاص بهم، بينما تسبب أيضاً في حدوث موجات صدمة في جميع أنحاء الاقتصاد العالمي والنظام الجيوسياسي العالمي.

النظام العالمي بعد الصراع بين روسيا وأوكرانيا

لقد أدى الصراع بين روسيا وأوكرانيا، في أعقاب جائحة كوفيد -19 الذي أغرق الاقتصاد العالمي في حالة الركود، إلى زعزعة الهيمنة الأمريكية، وأصبح أكبر تحد للنظام الدولي منذ الحرب العالمية الثانية. العولمة، كما عرفناها على مدى الثلاثين سنة الماضية، تقترب من نهايتها، حيث أعلن لاري فينك، الرئيس التنفيذي لشركة “بلاك روك ، أكبر مدير للأصول في العالم، في رسالته للمساهمين لعام 2022 أن الصراع بين روسيا وأوكرانيا سيعيد تشكيل سلسلة التوريد العالمية ويزيد التضخم العالمي، كما حمل مقال نشرته صحيفة “نيويورك تايمز” بعنوان “انتهت العولمة.. بدأت حروب الثقافة العالمية”، آراءً مماثلة.

لقد أدت التغييرات في العلاقة الصينية الأمريكية، إلى جانب تطور قوى إقليمية أخرى وتحالفات وطنية جديدة، إلى إضعاف نفوذ الولايات المتحدة، حيث تلعب القوى الإقليمية مثل جنوب إفريقيا والهند وإندونيسيا والبرازيل والمكسيك دوراً هاماً فريداً على المسرح العالمي، كما أدى التطور المستمر للتحالفات الوطنية مثل الآسيان والاتحاد الأفريقي إلى تعزيز الوحدة الإقليمية ومنحها نفوذاً  أكبر للحفاظ على استقلالها.

بعد اندلاع الصراع بين روسيا وأوكرانيا، فرضت  40 دولة فقط عقوبات على روسيا، وكان هذا القرار مدفوعاً بأسباب تجارية، فثلثي دول العالم تعتبر الصين كشريك تجاري رئيسي لها، الأمر الذي دفعهم إلى اختيار موقف عدم الانحياز الذي يشير إلى أن البلدان النامية تميل اليوم إلى أن تكون متعددة الأقطاب أكثر من القطبين. وفي الوقت نفسه، بينما تحاول الولايات المتحدة تعزيز تحالفاتها القديمة مع الشركاء والحلفاء، تستعد الأرجنتين وإيران ودول أخرى للانضمام إلى مجموعة “البريكس”، والتي قد تلعب دوراً أكثر نشاطاً في إعادة تشكيل النظام العالمي.

لقد أدى اندلاع الصراع بين روسيا وأوكرانيا إلى تسريع عمليات إعادة الهيكلة الرئيسية على الساحة الدولية وزيادة الاستقطاب المتعدد، كما أن تكثيف القضايا المحلية في الولايات المتحدة، وما إذا كانت البلاد لديها الإرادة والثقة والقدرة على الاستمرار في الحفاظ على مكانتها كقوة عظمى، أصبحت موضع تساؤل على نحو متزايد.

توقع زبغينيو بريجينسكي، مستشار الأمن القومي في عهد الرئيس جيمي كارتر والمنظر الجيوستراتيجي الشهير، ذات مرة في كتابه “رقعة الشطرنج الكبرى”: الألوية الأمريكية وضروراتها الجيوستراتيجية، أنه على المدى الطويل، من المحتم أن تصبح السياسة العالمية غير ملائمة بشكل متزايد لتركيز القوة المهيمنة في يد دولة واحدة. وعلى ذلك، فإن أمريكا ليست فقط القوة العظمى الأولى، والوحيدة فقط، بل من المحتمل أيضاً أن تكون الأخيرة. اليوم  اتجاه اللامركزية في السياسة العالمية هو في الأساس نتيجة مفروضة، فمع ازدياد قوة البلدان المحيطية وضعف قوة المركز، ستصبح القوة في النظام العالمي “المركزي والمحيط” أكثر لامركزية، مما يؤدي إلى نظام عالمي متعدد الأقطاب أكثر مساواة وشمولية.

تغييرات في النظام العالمي ودور الصين

ستؤثر إعادة تشكيل النظام الدولي بشكل أساسي على القيم والمعايير والترتيبات المؤسسية السائدة، ونظراً لأن القوى الكبرى تلعب دوراً مهماً في تغيير النظام العالمي، فإن العلاقات الصينية الأمريكية، وصعود الصين، هما عنصران أساسيان. وفي هذا السياق، وصف رئيس وزراء سنغافورة السابق لي كوان يو الصين ذات مرة بأنها “أكبر لاعب في التاريخ”، مسلطاً الضوء على أنه من المستحيل لدولة كبيرة مثل الصين ألا يكون لها تأثير على النظام العالمي، فما ما هو تأثير الصين على النظام العالمي؟

إن هياكل القوة الثنائية، والمفاهيم التاريخية للهيمنة، فضلاً عن المشاعر الأيديولوجية والقومية، تجعل من السهل على الغرب اعتبار الصين عدواً، لكن المفاهيم التقليدية للصين عن “الانسجام والوئام”، ومهمتها بخلق حقبة جديدة من الرخاء المشترك، وهدف بناء مجتمع مصير مشترك للبشرية كلها تثبت أن الصين ملتزمة بتحقيق نهوض سلمي شامل ومتناغم. وأما فيما يتعلق بالتنمية الاقتصادية، فقد حققت الصين في 30 إلى 40 عاماً ما استغرقت الدول الغربية ما يقرب من 200 عام لإنجازه ، وهي تعمل أيضاً على تضييق الفجوة تدريجياً مع الاقتصاد الأمريكي.  ومن الناحية الجيوسياسية، ليس لدى الصين الرغبة لتحل محل الولايات المتحدة كشرطي في العالم، ولا توفير السلع العامة للعالم على الرغم من قوتها الوطنية الشاملة المتزايدة، لكن رغبة الصين وقدرتها على حماية مصالحها الوطنية الخاصة وتحمل المسؤولية كقوة عظمى آخذة في الارتفاع أيضاً.

لقد استفادت الصين بشكل كبير من العولمة، وعملت باستمرار على الانفتاح على العالم الخارجي، وتوفير المكاسب العامة المؤسسية الدولية للمجتمع العالمي، وهي تعمل أيضاً على تعزيز المفاهيم الجديدة للعولمة والحوكمة لتوجيهها نحو اتجاه أكثر شمولاً وإنصافاً وعدالة. في العقد الماضي، اقترحت الصين مفهوم مجتمع مصير مشترك للبشرية، ودعت إلى تنفيذ مبادرة “الحزام والطريق”، وفيما يتعلق بالتنمية الاقتصادية، شجعت الصين على إنشاء البنك “الآسيوي للاستثمار” في البنية التحتية، وانضمت إلى الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة، كما قامت بالتوقيع على الاتفاقية الشاملة للاستثمار بين الصين والاتحاد الأوروبي  وتقدمت بطلب للانضمام إلى الاتفاقية الشاملة، والاتفاقية التقدمية للشراكة عبر المحيط الهادئ  واتفاقية شراكة الاقتصاد الرقمي.

في خطابه في أيار 2022 الذي حدد سياسة إدارة بايدن تجاه الصين، اعتبر وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكين الصين “أخطر تحد طويل الأجل للنظام الدولي”. كانت  استراتيجية الولايات المتحدة لاحتواء الصين في العقود الماضية واضحة جداً بدءاً من سياسة أوباما “المحورية إلى آسيا” إلى “الحوار الأمني ​​الرباعي” ، والتحالف الأسترالي – البريطاني – الأمريكي “أوكوس، وتحالف” العيون الخمس”، والإطار الاقتصادي الهندي، والمحيط الهادئ للازدهار. ومع التراجع النسبي للنفوذ الأمريكي، ستصبح القوى الإقليمية أكثر طموحاً، وستكون هناك اشتباكات عسكرية أكثر حدة بين الدول بالإضافة إلى زيادة التحالفات الوطنية، حيث تشير مثل هذه السيناريوهات إلى أن العالم سيكون أكثر تجزئة واضطراباً وانقساماً قبل أن يتم إنشاء نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب.

خلق مساحة للتعاون بين الصين والولايات المتحدة وأوروبا

قد ينظر بعض الأوروبيين إلى الصين على أنها تحد للنظام الدولي القائم، ويشعرون بالأسى من تراجع الغرب، لذا يجب على الدول التي تعتبر اقتصاداتها الركائز الاقتصادية الرئيسية الثلاثة في العالم خلق مجالاً للتعاون من أجل العمل على حل معظم الصراعات والانقسامات العالمية التي يواجهها العالم اليوم، كما يمكن لمنصة رفيعة المستوى للحوار والتنسيق أن تستخدم  لتنسيق المواقف المختلفة بشأن القضايا الدولية الرئيسية، وأن تساعد في تجنب سوء التفاهم والصراعات غير الضرورية، وتلعب دوراً إيجابياً في تعزيز السلام العالمي والتنمية المشتركة.

قد لا تكون أوروبا قوية عسكرياً، لكنها لا تزال تتمتع بمزايا كبيرة من حيث الاقتصاد والقوة الناعمة والتأثير الثقافي. لذلك يجب على  أوروبا أن تعمل كوسيط بين الصين والولايات المتحدة، بدلاً من الانحياز الكامل إلى الولايات المتحدة والحفاظ على استقلالها النسبي.

إعادة ة بدء العولمة الاقتصادية وإعادة تشكيل النظام العالمي

حذر بيتر شيف، أحد خبراء التنبؤ المخضرمين في وول ستريت الذي تنبأ بدقة بالأزمة المالية لعام 2008، في أوائل تموز عام 2022 من أن الولايات المتحدة ستواجه أزمة اقتصادية أكثر حدة من “الركود العظيم”  لعام 2008. كما صرحت رئيسة صندوق النقد الدولي، كريستالينا جورجيفا، علناً في الثالث عشر من شهر تموز الماضي أن حالة الاقتصاد العالمي ستكون قاتمة و رهيبة في عام 2022 ، وربما ستكون أسوأ في عام 2023، ويمكن القول إن ركوداً اقتصادياً عالمياً قد بدأ، حيث يستمر التضخم العالمي وأزمات الغذاء والطاقة بالازدياد، كما ويزداد التباطؤ الاقتصادي في الولايات المتحدة وأوروبا سوءاً.

شكل نظام “بريتون وودز” بعد الحرب العالمية الثانية حجر الزاوية للنظام العالمي بعد الحرب، وجلب عقوداً من السلام والاستقرار والازدهار للعالم. أما اليوم، أوصل كوفيد -19، والصراع بين روسيا وأوكرانيا البشرية إلى لحظة “بريتون وودز جديدة”، حيث تواجه العولمة الاقتصادية بيئة دولية أكثر تعقيداً ما يعني تضرر السلام العالمي والانفتاح والاتصال والتنوع والتنمية العادلة. نتيجة لذلك، يجب على جميع الأطراف التركيز على إنشاء نظام اقتصادي جديد وأساس مؤسسي جديد، وفي الوقت نفسه التحوط ضد التوسع العسكري وانعدام الأمن الذي يجلبه إلى العالم.

وبحسب خبراء الاقتصاد ثمة أمور يجب القيام بها في المستقب:

أولاً: يجب أن تكون إصلاحات منظمة التجارة العالمية جوهرية ومن الأولويات، وكذلك العمل على تعزيز الاتفاق الشامل الذي تم التوصل إليه نتيجة المؤتمر الوزاري الثاني عشر لمنظمة التجارة العالميةوالمتعلق بإعادة ثقة المجتمع الدولي في النظام التجاري متعدد الأطراف، على أمل أن تعزز جميع الأطراف إصلاحات منظمة التجارة العالمية في المستقبل، وأن تقوم منظمة التجارة العالمية مرة أخرى بدورها في الحفاظ على التجارة الدولية متعددة الأطراف والتوسط فيها.

ثانياً: هناك حاجة إلى التنفيذ السلس لاتفاقية الاستثمار بين الصين والاتحاد الأوروبي، خاصةً بعد أن وصلت العلاقات بين الصين والاتحاد الأوروبي إلى طريق مسدود بشأن اتفاقية الاستثمار بين الصين والاتحاد الأوروبي على مدار العامين الماضيين، لذا فإن استئناف الاتصالات قد يسمح لكلا الجانبين بالتفاوض ورفع العقوبات، مما يمكّن اتفاقية الاستثمار بين الصين والاتحاد الأوروبي من الدخول حيز التنفيذ في أقرب وقت ممكن.

ثالثاً: يمكن إنشاء إطار تعاون متعدد الأطراف لبنك التنمية. كما يمكن، في المستقبل، أن يعمل البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية مع البنك الدولي، وبنك التنمية الآسيوي، والبنك الأوروبي للإنشاء والتعمير، وبنك الاستثمار الأوروبي ، والبنك الإسلامي للتنمية، وبنك التنمية الأفريقي، وبنك التنمية للبلدان الأمريكية، وغيرها، لتعزيز منصة لتطوير البنية التحتية العالمية بقيادة بنوك التنمية الدولية متعددة الأطراف.

رابعاً: إن تعزيز التعاون الاقتصادي والتجاري والاستثماري أمر أساسي، ونظراً للطلب المتزايد على الاستجابة المشتركة للتحديات، فقد يكون من الممكن التحوط من انعدام الأمن من خلال تعزيز التعاون الاقتصادي والاستثماري التجاري بين الصين والولايات المتحدة ودول إقليمية أخرى ضمن “الإطار الاقتصادي لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ من أجل الازدهار”، لأنه من الصعب على الآسيان والدول الآسيوية الأخرى أن تنأى بنفسها عن الصين من الناحية الاقتصادية والأمنية، وهي غير مستعدة للانحياز إلى أي جانب. كما أن تقسيم آسيا سياسياً وعسكرياً لا يتماشى مع صعود الدول الآسيوية.

خامساً: تحفيز الحيوية الاقتصادية الإقليمية والعالمية لتعزيز التكامل الاقتصادي لمنطقة آسيا والمحيط الهادئ. في المستقبل، إذا أصبحت الكعكة الاقتصادية أكبر وعاد الجميع إلى آلية التفاوض متعددة الأطراف، سيقلل ذلك من مخاطر الصراع المباشر بين البلدان ويقلل من المخاطر الجيوسياسية.

سادساً: يجب إنشاء إطار عمل جديد لتعزيز الاتفاقيات واللوائح المعيارية للاقتصاد الرقمي العالمي، ويجب على الولايات المتحدة أيضاً السماح لشركة “هاواوي” و”تيك توك ” وبرنامج “وي تشات” وغيرها من الشركات بالعمل في الولايات المتحدة. كما ينبغي النظر في إنشاء “تحالف البيانات الدولي” الذي يتألف من أكبر/ 20 /شركة للاقتصاد الرقمي في العالم لتعزيز قدرة مجموعة العشرين على تعزيز الحوكمة العالمية في الاقتصاد الرقمي بشكل أفضل.

ومن أجل سد الانقسامات التي أحدثها فيروس كوفيد -19 والصراع بين روسيا وأوكرانيا، وتجنب اندلاع حروب إقليمية أكبر، وتوجيه تطوير النظام العالمي للعمل بشكل أكثر اعتدالاً، يجب تعزيز التعاون الاقتصادي، لأن إعادة تشكيل الحوكمة الاقتصادية العالمية والترويج لجولة جديدة من العولمة الاقتصادية هما أفضل السبل للمضي قدماً.