ثقافةصحيفة البعث

الباعة الجوالون.. بالعمل يتعالجون

 غالية خوجة

السوريون لا ترهقهم ذلّة، لذلك تراهم يستجمعون ما تناثر في دواخلهم، ويستخرجون ما تزلزل منهم بين حرب وحصار وزلزال، ويشحذون إرادتهم بالاتكال على الوطن، ويعودون إلى حياتهم اليومية ليكونوا إيجابيين، ولتزهر المقابر والأنقاض من جديد، ولتزهر الحياة بالتعاون والدعم والمساندة والشهامة والكرم والأمل والعمل الذي واصلته الغالبية، ومنهم الباعة الجوالون الذين يمشون مع عرباتهم وبضاعاتهم في الشوارع والساحات المفتوحة والحدائق، ومنهم بائع البوشار وغزل البنات أحمد شناق، وابنه محمد، الواقفين قريباً من باب ينظر إليه نصب الشاعر البحتري في الحديقة العامة، بينما تدخل العائلات لتروّح عن نفسها بين الأشجار المعمّرة المتجذرة في هذه التربة الأصيلة، ولتدفأ الأجساد بأشعة الشمس الشتوية وهي تبتسم للأطفال اللاهين في المكان المخصّص للألعاب من أراجيح وميزان ومتوازٍ.

الجميع في حلب يحاول معالجة نفسه من صدمة الكارثة، لكنهم ورغم كلّ شيء متفائلون، وهذا ما قاله لي البائع أبو محمد شناق: إنه خير، ومتفائلون بالفرج القريب، ولا بدّ من العمل لتأمين أقواتنا اليومية.

وتابع: كنتُ في السويداء أثناء الزلزال، لكنني عدت إلى حلب سريعاً، وما حدث لا يزيدنا إلاّ محبة لبعضنا، وانكشافاً واقعياً للعالم الذي رحلت إنسانيته عن هذه الأرض، ما عدا بعض الدول العربية والصديقة، ولا بدّ أن يصرخ هذا العالم بصوت واحد: فكوا الحصار عن سورية، وارفعوا العقوبات عن سورية. وأضاف: اعتدنا على الاستمرار في الحرب ونعتاد على الاستمرار في الكوارث، وكله خير.

ثم اقتربت امرأة وابنها لتشتري من هذا البائع، فتركته يعمل، وتجوّلت وأنا ألملم ذكريات الأطفال الذين لعبوا يوماً هنا، ومنهم من مات تحت الأنقاض، ومنهم من استطاع المنقذون إخراجه، بينما ما زالت صورة ذاك الرضيع بصرخته المذهولة تنتشر مع صور أخرى للمصابين والجرحى والناجين المتواجدين في مراكز الإيواء.

وبين هذه المشاهد الطارئة أبصر غيوماً تبتسم، بينما تبدو جاذبية الأرض خجلى وهي تستعيد توازنها من خلال الهزات الارتدادية، جاذبية الأرض تبدو أكثر إنسانية من العالم الذي لم يكترث بآلامنا وجرحانا وموتانا وشهدائنا وحقوقنا، سواء في الحرب الإرهابية أو أثناء وبعد الزلزال المدمّر الذي حدث في السادس من شباط!.