الافتتاحيةسلايد الجريدةصحيفة البعث

دمشق.. الرهان على العروبة مستدامٌ وواعد

بسام هاشم

سورية ليست بحاجة إلى اكتشاف، هي موجودة على الخريطة دائماً، لم تغِب.. ومن يحتاج إلى اكتشافها هم من نسوا أنفسهم فقط.. وحتى في احتجابها الجليل، كانت سورية حاضرة كحُرقة ممضّة، وغصّة، وجُرح ينزّ ويتألّم.. وها هو حضورها اليوم يؤذن بصحوة شعبية ورسمية عربية، على أكثر من صعيد.. صحوة هي تصحيح لمسارات خاطئة كان يراهن عليها أعداء الشعب والأمة، وأعداء الأفق الحضاري للعروبة والإسلام. فقد كانت سورية، وستبقى، تراهن على العروبة، وتعمل على أن يعمّ هذا الرهان الصائب والنافع أقطار الوطن العربي كافة، ولاسيّما أن سنده الشعبي دائم ومتصاعد، وهذا ما ظهر في الملمّات التي أصابت سورية قبل الزلزال ومعه.

فليس هناك من يصل إلى دمشق بأمر أو بإيعاز أو إشارة من أعداء العروبة، لأن دمشق لا تستضيف إلا الشجعان وأصحاب المبادرة الفاعلة.. وما من أحد يزورها مُرغماً لأنها أرض السلام والكرامة.. دمشق تضفي من صفاتها على كل وافد إليها، وتجلل بالمعاني العميقة كل خطوة فوق ترابها، وسورية تشكر وتتوجّه بالتحية لكل زائريها.

ومن ردّد أن قدوم العرب إلى دمشق كان “من أجل مسائل إنسانية فقط”، هو نفسه الذي ينفث الحقد في وجه سورية منذ أربعين عاماً، والذي ما كان ليتصوّر أن تقوم لسورية قائمة.. الإعلام المأجور الذي يسيطر عليه المحافظون الجدد في نسختهم العربية، والمرتزقة الذين تربّوا في أحضان الميليشيات اليمينية التقسيمية، بتلويناتها المحدثة، هؤلاء الذين يعملون على تقويض سورية العروبة، الحضور والدور، لأنها حالت دونهم ودون التواطؤ مع “إسرائيل” أو “التصالح” معها، والذين رقصوا طوال السنوات الماضية على جثامين المقاومة والمقاومين، علّهم “يتحرّرون” من “عبء” القضية الفلسطينية.

وبما أن عبارات من قبيل “عودة سورية إلى الحاضنة العربية”، أو “عودة العرب إلى سورية”، قد تردّدت طوال الأيام الماضية، فالأولى تصحيح المغالطة: لن تكون هناك عودة إلى عالم انهار، وانهارت معه مؤسساته التقليدية، ونحن جميعاً خلاصة وجع واحد، وأبناء مرحلة جديدة بوعي مختلف وتحدّيات مختلفة..

لقد كان الوطن العربي أغلبه غائباً، في متاهة من انعدام الوزن والتشوّهات السياسية.. كان يختنق منذ أن دشّن أوباما وتابعوه موجة “الإسلام الأمريكي” لزعزعة استقرار المنطقة، وهو اليوم يتطلّع مجتمعاً للخلاص من وضع مُزرٍ لم يعرفه العرب إلا في أسوأ عصورهم ضعفاً وهواناً.. لتأتي الزيارات المتتالية إلى سورية بحدّ ذاتها محطّات في مسار “تصحيح التاريخ”، الذي طالما تحدّث عنه السيد الرئيس بشار الأسد، في لحظات التحرير المتوهّجة.

حدثٌ كان يترقّب بالتأكيد ردود فعل الإدارة الأمريكية، ولكنه يرسل رسالة تحدّ قوية: العرب في دمشق للقاء الرئيس الأسد، وطيّ صفحة مظلمة قد يستغرق طيّها وقتاً طويلاً – وهذا مفهوم موضوعياً في ضوء ترسبات السنوات الماضية – ولكنه مؤشر على الصحوة، ولنقُل على الرفض الجماعي للعار الذي تريد واشنطن ولندن وباريس، وكل الإمبراطوريات المقيتة، إلحاقه بالأمة العربية بالتخلّي عن الحاضرة العربية الأولى، دمشق الطّهر، القبلة، حيث الوضوء بوهج العروبة، فكانت اللقطة الجماعية في رُدهات القصر الرئاسي فاتحة مرحلة من الشموخ والتضامن والقوة، وكانت الجلسة تحت قبّة مجلس الشعب أول جلسة برلمانية عربية مشتركة للزمن الجديد.. كان التواصل مع سورية دائماً حاجة وضرورة، وسورية كانت دوماً تحت أعين العرب.

إن رئيساً ضعيفاً مثل بايدن لا يُعطي ضوءاً أخضر لزيارة سورية التي ترزح منذ عقود تحت وطأة العقوبات الأمريكية، وليس “قانون قيصر” سوى نسخة العقوبات الأشدّ إجرامية التي عرفتها البشرية، فهو لا يعكس انعدام الحسّ الإنساني لدى الطبقة السياسية الأمريكية فحسب، بل يفضح الاستعداد الأمريكي لاقتراف جرائم علنية، في وضح النهار، وفي تناقض مفضوح مع المثالية البائسة التي يبيعونها للعالم.

لقد كلّفت العشرية السوداء سورية مدارسها ومصانعها ومستشفياتها، ومكّنت لصوصاً وشذاذ آفاق من تفكيك وسرقة منشآتها، بالتواطؤ مع شبه معارضة نذلة وجبانة تآمرت على مسقط رأسها، انطلاقاً من رغبة حاقدة بأن سورية القومية العربية ستنتهي إلى الأبد، وأن شعبها – الذي وصفه أحد الرؤساء الأمريكيين بالمجتهد والحضاري، وخرّج الأطباء والمهندسين والمحامين، دون أن يمنعه ذلك من قصفه بالصواريخ! –  لن تقوم له قائمة، وأن عليه أن ينساها كما لو أنها لم توجد..

ولكن سورية تنهض وينهض معها أشقاؤها.. والتاريخ سيسجّل لنا معاً تصحيحاً آخر..