مجلة البعث الأسبوعية

مطعم الشباب الذي تحوَل إلى مقهى وصالون أدبي

فيصل خرتش

 

“طوني” يطعم الحمامات والعصافير في حديقة المقهى، واليوم برد شديد، عدد من الذين تقاعدوا من الحياة، وبعض الشعراء من أصحاب الموزون والمقفى، جلسوا جميعَاَ حول المدفأة الحطبية التي ترقد في وسط المكان يتدفؤون على النار المنبعثة منها، وعندما تخبو ينهض أحدهم، ويجلب بعض الكتب، يضعها بجانبه ثمَ يبدأ بدسها الواحد بعد الآخر في المدفأة، مع أغصان الأشجار الخضراء المبتلة بالماء من أثر الأمطار، عاد “طوني” ورأى المشهد فابتسم، ثمَ دخل إلى قبوه الصغير يعد القهوة إلى الزبائن المنسيين.

يقع مقهى الشباب في حلب، في شارع بارون الذي كتبت فيه “أجاثا كريستي” قصتها البوليسية “جريمة في قطار الشرق السريع” وفيه نام الملك فيصل، وأنت حين تصل إلى الفندق، تابع قليلاَ إلى الأمام، وعندما تصل إلى سينما أوبرا، انحرف إلى اليسار، وعند ذلك يواجهك المطعم في صدر المكان، وستقرأ اسمه على لافتة طولانيةمكتوب عليها اسمه.

وهذا المطعم كان يجتمع فيه يومياَ وجهاء المدينة ومثقفوها وشعراؤها وكتبة القصة والروائيون والفنانون والممثلون، ومن هب ولم يدب من عامة الشعب، والأخوان كعدة يلبيان طلبات كل هؤلاء الزبائن بوجه بشوش، وحدثت مشكلة مع أحد الذين يقطنون في المنطقة، وأحيل المطعم وصاحباه إلى القضاء، وامتد الموضوع لسنوات، والمطعم مغلق، إلى أن قيض له قاض متبصر بالأمور، فسمح لهما بأن يجعلاه مقهى، لكن فرج اللهلم يعجبه الأمر، فاستنكف، وبقي طوني وحده يسير أمور المقهى، ويقوم بخدمة الزبائن، يساعده أبو علي الذي يجلب الطلبات إلى الزبائن.

والمقهى عبارة عن صالتين، تجاوران الباب، واحدة على اليمين وأخرى على اليسار، وما إن تعبرهما حتى تكون في حديقة صغيرة تضم الأشجار الكبيرة والصغيرة، التي تخيم على المكان، وتحتها يجلس المثقفون والشعراء وكتاب القصة، يتشمسون من برد الشتاء، وحولهم يجلس بعض الزبائن المنسيين الذين فقدوا علاقتهم بالخارج، وطوني يقلَم الأشجار ويجمع أغصانها من أجل المدفأة وبرد الشتاء.

ومنذ أوائل السبعينيات افتتح الأخوان حنا وإلياس كعدة مطعماَ ما بين سينما الكندي وسينما حلب، كان المطعم صغيراَ ويتألف من طابقين، مكتوب على الباب “يوجد لدينا عصافير تين” التي اشتهر مطعم حنا كعدة بتقديمها إلى الزبائن المميزين، واشتهر كذلك بتقديم الفروج المشوي، التي يقول طوني عنه: تتغير طعمته عندما يصنعونه في البيت، ثمَ انتقل المحل إلى أمام سينما أوبرا، وجاءه الزبائن من كلَ مكان في المدينة وغيرها من المدن، حتى السواح كانوا يترددون عليه، ومن زبائنه المشهورين: الفنان لؤي كيالي وعزوته، والفنان سعد يكن وعزوته التي تتألف من الفنان علي الحسين ودورسي الفنانة السويسرية، والفنان شريف محرَم الذي كان ينضم إلى جلستنا في وقت متأخر، أضف إليهم الشعراء وكتاب القصة، الذين يزورون المدينة، من أمثال الشاعر علي الجندي، والشاعر مصطفى البدوي.

الآن يقوم الشاعر بشير دحدوح (عضو اتحاد الكتاب العرب) بجمع الشعراء والقاصين وبعض من الروائيين في المقهى الثقافي، ويقوم أحدهم بإلقاء شعره أو قصته أو شيئاَ من رواية، ويعلَقون عليه، أين أصاب، وأين أخطأ، وتستمرَ الجلسة من الساعة التاسعة إلى الساعة الحادية عشرة، يتخللها شرب القهوة والشاي والميلو، وتطيب الجلسة عندما يَدعى كاتب من غير المحافظة، فهم ملتزمون بضيافته ومنامته والسياحة به فيزورونه القلعة ويدخلونه إليها، ثمَ يزورونه السور وأهم المعالم الأثرية، ثمَ يودعونه بمثل ما المستقبل من حفاوة بالغة، ويجب شكر هذه الجماعة لما تقوم به من تكريم للأدباء الذين توفَوا، فمن قراءة بعض الآيات، إلى الوقوف دقيقة صمت، إلى التعريف بالمتوفى، ثمَ قراءة شيء من أعماله، جرى ذلك للأديب وليد اخلاصي، والأديب وليد السباعي، وغيرهم.

وقامت الأديبة رياض ندَاف كذلك بجمع عدد من الأدباء في المقهى الثقافي، ومناقشة أعمالهم، والتعليق والحكم عليها، وتقريظها، ثمَ نقلت المجموعة إلى سوق الإنتاج، واستضافت عدداَ من الكتاب، لا بل إنها أقامت رحلات إلى أماكن تواجد الأدباء في محافظاتهم، واعتبرتها رحلات تنشيطية لأعضاء الملتقى.

يبقى ما قام به الشاعر بشير دحدوح والأديبة رياض ندَاف، من تحويل المقهى الذي لا يأتيه إلا الزبائن القلَة، إلى المقهى الثقافي، خطوة جريئة نتمنى أن تستمرَ في المقاهي الأخرى.