السودان ضحية أخرى لأوهام العولمة
عناية ناصر
لم تحدث اضطرابات ومشكلات السودان الحالية من لا شيء، بل من المحاولات المتعمّدة من قبل بعض قوى الهيمنة الغربية لزعزعة استقرار الوطن العربي، والاستيلاء على سيادته لتحقيق مكاسبه الأنانية.
بدأ دعاة العولمة الوهميون في واشنطن ولندن، في عام 2003، وبدعم من نظرائهم في بعض العواصم الغربية الأخرى، مغامراتهم غير المحسوبة بمحاولة تنفيذ مشروعهم السيئ “الشرق الأوسط الجديد” في قلب الوطن العربي، وظنوا خطأً أنهم في رحلة تغيير الوطن العربي وجعله آمناً لمصالحهم الخاصة، فعندما قرّر المهيمنون العالميون غزو العراق، لم يكن هدفهم العراق فقط، بل الشرق الأوسط كله. كان العراق بالنسبة لهم البداية وليس النهاية، ومجرد بداية تكتيكية لمشروع أكبر وإستراتيجية أكثر طموحاً، حيث أرادوا استخدام العراق، أرض الحضارات القديمة والموارد الوفيرة والذي يتمتّع بموقع استراتيجي في وسط طرق التجارة العالمية، كمحور لإعادة تشكيل الوطن العربي بأكمله، إلا أنهم بالغوا كثيراً في تقدير قدراتهم، وقلّلوا من كبرياء العرب وتطلعاتهم.
لقد كان هدفهم فرض هيمنتهم الغربية في جميع أنحاء المنطقة، كما كان لديهم تصور ووهم كبيرين بأنه من خلال غزوهم لبغداد يمكنهم بسط هيمنتهم على بقية العواصم العربية، وفرض إرادتهم على الشعب العربي بأسره. لقد أرادوا تعميق هيمنتهم الإقليمية والعالمية، بينما كان العالم يتغيّر بسرعة، وقوى أخرى في حالة صعود. كان لديهم اعتقاد أنه يتعيّن عليهم التصرف بسرعة لتعطيل تحولات القوة الإقليمية والعالمية بشكل استباقي قبل أن يتعرّض تفوقهم للخطر.
لقد أدرك المهيمنون أنه ليس لديهم الكثير من الحوافز الإيجابية كي يقدمونها للعرب لقبول هيمنتهم المستبدة على أرضهم ومصيرهم، إضافة إلى أن نصيبهم من الاقتصاد العالمي والتجارة قد بدأ في الانكماش، وخلصوا إلى أن أفضل طريقة لجعل العرب يقبلون أجندتهم في المنطقة هو القوة الوحشية من أجل ترهيب العرب للتخلي عن سيادتهم وتطلعاتهم المستقبلية، وإخضاع إرادتهم للقوى الأجنبية.
بعد أن قاموا بتدمير الدولة العراقية، والنسيج الاجتماعي، والبنية التحتية، والاقتصاد في العراق، عملوا على خلق الظروف المناسبة لنمو الإرهاب، وسهّلوا ظهور الجماعات الإرهابية مثل “داعش” في أماكن مختلفة من الأراضي العربية. وتحقيقاً لمآربهم الشيطانية، استخدموا آلة الدعاية الضخمة الخاصة بهم لتضخيم ونشر الرعب في جميع أنحاء المنطقة وخارجها. وبحلول عام 2011 تمّ التجهيز والتحضير للمرحلة التالية من مشروعهم، وذلك عندما بدأت فوضى ما سُمّي “الربيع العربي”، حيث كانت أحداث “الربيع العربي” محاولات انقلابية لتغيير الأنظمة في مختلف البلدان العربية التي اعتبرت حكوماتها غير صديقة لأجندة الهيمنة في المنطقة.
لم تكن الفوضى والدمار نتاجاً ثانوياً غير مقصود للاستراتيجية، بل كانت الاستراتيجية نفسها، حيث استخدموا بشكل علني وثابت مصطلح “التدمير الخلّاق” للإشارة إلى الفظائع التي كانوا يتسبّبون فيها في المنطقة.
يُذكر أن “التدمير الخلاق” مصطلح اقتصادي يستخدم لوصف المواقف التي تدمّر فيها الابتكارات الجديدة الهياكل الاقتصادية القديمة، مما يمهد الطريق لظهور ابتكارات جديدة أكثر ملاءمة.
وعلى ما يبدو، اعتقد المهيمنون العالميون في تفكيرهم المنحرف أن قتل وتشريد ملايين العرب، وإحداث الفوضى في المنطقة العربية كلها خطوات ضرورية لنجاح أجندتهم، حيث كانوا يأملون أنه من بين الدمار، ستنشأ منطقة وشعوب يقبلون بطاعتهم وتنفيذ إملاءاتهم بخنوع. لقد كانت رغبتهم هي إعادة تشكيل الوطن العربي بالكامل، والسيطرة عليه قبل أن يضطروا إلى التمحور حول تنافس القوى العظمى ضد الصين، وربما ضد روسيا فيما بعد، التي لم يكن اتجاهها المستقبلي واضحاً في ذلك الوقت. لقد ظنوا خطأً أنهم سينهون المهمّة في الوطن العربي بحلول عام 2020 حتى يتمكنوا من البدء في تجديد آلة صنع القرار والبيروقراطية الخاصة بهم لمنافسة القوى العظمى التي كانت تلوح في الأفق.
لقد كانوا يعلمون أن الأمر سيستغرق الكثير من الوقت والجهد ليكونوا مستعدين، وينتقلون من وضع “الصراع منخفض الحدة” الذي كانوا يستخدمونه ضد العرب إلى وضع “الصراع شديد الحدة” الذي كانوا يتوقعون استخدامه ضد الصين وربما روسيا.
لقد أدّت تصرفات عصابة العولمة إلى نتائج عكسية بشكل هائل، مما تسبّب في نهوض سياسي كبير في المنطقة، وبالتالي فقد دعاة العولمة الوهميون مصداقيتهم وحسن نيتهم، إلا أن بعض المهيمنين ما زالوا يأملون في إحيائها من خلال استغلال نقاط ضعف بعض الدول العربية المتعثرة، وخاصة الآن بسبب القلق الشعبي من ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء.
وهنا يأتي دور السودان، البلد الذي يعتبر آخر المسارح الإقليمية لأوهام الهيمنة الكبرى. لقد خرج السودان من الموجات الأولى من “الربيع العربي” سالماً نسبياً، ليس لأنه لم يكن هدفاً، ولكن لأن دولاً عربية أخرى مثل مصر وسورية وليبيا واليمن أعطيت الأولوية الأكبر.
إن أهمية السودان تنبع من كونه أحد دعائم البنية الأمنية في الوطن العربي، إضافة إلى أن السودان والشعب السوداني أهم من أن يتركهم العرب وشأنهم في زمن الأزمة هذه. لذلك ومن أجل مستقبل عربي مزدهر، يجب على الدول العربية أن تعمل بجد لمنع السودان من الانزلاق إلى حالة من الفوضى الدائمة، كما يتوجّب عليهم بذل قصارى جهدهم للمساعدة في استعادة السلام والاستقرار في السودان في أقرب وقت ممكن، ذلك أن التكامل والازدهار العربي لن يكتملا بدون السودان السليم والمزدهر.