دراساتصحيفة البعث

الأزمة السودانية من وجهة نظر ميشيل ريمبو

هيفاء علي

في الوقت الذي تزداد الأوضاع السياسية تدهوراً في السودان جراء المواجهة بين جنرالين كانا حليفين، في الأمس، قدم الدبلوماسي الفرنسي ميشيل ريمبو، وجهة نظره حيال هذا الأمر بوصفه سفير فرنسا السابق في السودان، محذراً من تطور الأوضاع إلى حرب أهلية، ومن مغبة تقسيم جديد للبلاد، على غرار ما حدث في جنوب السودان، في عام 2011، وذلك من خلال مقال نشرته مجلة أفريقيا-آسيا.

في البداية، أوضح ريمبو أن السودان عاد إلى الظهور في عناوين الأخبار في 15 نيسان الماضي، الأمر الذي جعل الخبراء والمحللين في حيرة من أمرهم في عالم عربي عُرضة لهجوم من يسمّون أنفسهم “محور الخير” على مدى ثلاثة عقود، مضيفاً أنه في الدوائر الغربية يتظاهرون بالتساؤل عمن يمكن أن يختبئ وراء هذه الحادثة القاتلة الجديدة التي تسبّبت بالفعل في سقوط مئات القتلى والجرحى. أما على الجانب العربي، فالأمور واضحة وضوح الشمس، وهي “الخلافات” بين قائدي السلطة المؤقتة التي أقيمت بعد الإطاحة بالرئيس عمر البشير، المعتقل منذ نيسان 2020: اللواء عبد الفتاح البرهان قائد الجيش السوداني و”مجلس السيادة الانتقالي”، واللواء محمد حمدان دقلو قائد “قوات الدعم السريع”. وبالتالي هو صراع الطموحات، وليس تصادم الأفكار الذي أدى إلى مثل هذه المواجهة العنيفة والمفاجئة. وعليه، يبدو أن الخلاف بين الشريكين، وهما صديقان سابقان أيضاً، لا علاقة له بمنافسة عسكرية، بل يتعلق بتوزيع السلطة، وهو أمر غير واضح للغاية بسبب موقف حميدتي الغامض، وربما السيطرة على الاقتصاد. ويتابع ريمبو الشرح لافتاً إلى أن رئيس قوة التدخل السريع انتزع من عمر البشير الامتياز غير المستحق لإدارة استخراج وتجارة الذهب السوداني، ومع ذلك فإن الصراع ينطوي على مخاطر كبيرة، ويخشى من أن تتحوّل المواجهة الحالية بين هذين الجنرالين إلى حرب أهلية، ومن ثم يكون هناك تقسيم جديد للبلاد، على غرار ما جرى في جنوب السودان في عام 2011.

السودان قبل البشير وبعده

أسفرت الحرب في السودان عن سقوط مليوني قتيل و6 ملايين نازح. كما تمّ تصنيفه على أنه “دولة مارقة”، وكان على قائمة سبع دول تريد أمريكا غزوها وتدميرها في غضون خمس سنوات منذ عام 2011، حيث يدرج انفصال جنوب السودان ذلك العام، في سجل عمر البشير، وهو المسؤول عنه عقب تعرضه لضغوط من اللوبي القوي، الذي تمّ إنشاؤه في واشنطن داخل قوة المحافظين الجدد والصهيونية نفسها، والتي أوجدت مشروع “جنوب السودان” من الصفر. لم يكد البشير يخرج من مشكلة الجنوب، حتى واجه محاولة انفصالية جديدة في دارفور، حيث التقى حميدتي، زعيم الميليشيا، وحيث ستزدهر حملة ستكسب الرئيس السوداني إدانته من المحكمة الجنائية الدولية!.

في نهاية عهده، توجّه البشير إلى سورية في زيارة رسمية استغرقت يومين، وهناك معلومات تقول إن الهدف من تلك الزيارة كان التحضير لتسوية العلاقات مع الحكومة السورية، في أعقاب إبرام اتفاقية مع روسيا لإنشاء قاعدة عسكرية في ميناء السودان على البحر الأحمر. ولكن يبدو أن هذه الرحلة التي تنذر بعكس التحالفات، كانت إيذاناً ببداية “الثورة السودانية”، بدعم من الولايات المتحدة. ومع استعداده للاحتفال بثلاثة عقود في السلطة والسعي إلى فترة رئاسية جديدة في عام 2020، دخل الاحتجاج مرحلة حاسمة تميّزت بالمظاهرات وإقالة الحكومة والقمع وحالة الطوارئ في 11 نيسان 2019، حيث أطيح بالبشير بانقلاب عسكري من قبل زملائه العسكريين، الذين حصدوا ثمار حركة احتجاجية مشوشة في الوقت المناسب، مع تلميحات عن ربيع عربي كاذب.

خطط أمريكا

منذ الإطاحة بعمر البشير أصبح السودان، المتاخم لسبع دول، أهم قاعدة لوكالة المخابرات المركزية في القارة الأفريقية، وبات من الواضح أن أمريكا بايدن لديها خطط مستقبلية للقرن الكبير، حيث أصبح السودان هدفاً لموجة جديدة من زعزعة الاستقرار، وحيث تمّ تثبيت الفوضى والاضطراب بشكل دائم في الشرق الأوسط الكبير من خلال التدخلات الأمريكية، المباشرة أو الهجينة، إذ يعتبر القرن الأفريقي إستراتيجياً للغاية نظراً لوجود منابع النيل الأزرق، ولكن أيضاً لأنه يحكم الوصول إلى التدفقات البحرية العالمية الرئيسية عبر البحر الأحمر وقناة السويس باتجاه البحر الأبيض المتوسط.

ويضيف الدبلوماسي الفرنسي أنه منذ تنصيبها، وضعت إدارة بايدن نفسها في ساحة المعركة في القرن الأفريقي من خلال إعادة تجميع “فريق فيلتمان”، الذي تمّ تأطيره وإدارته من قبل شخصيات شريرة أثبتت نفسها خلال ما سُمّي بـ”الربيع العربي” في لبنان وسورية، بتعاون تام مع وكالة المخابرات المركزية. في شباط 2021، تمت ترقية المتعصب الألماني فولكر بيرثيس إلى منصب الممثل الخاص للأمم المتحدة في السودان، وفي حزيران من العام نفسه عيّنت وزارة الخارجية جيفري فيلتمان كممثل خاص للولايات المتحدة في القرن الأفريقي، الذي أكد لمجلة “فورين بوليسي” أن المنطقة لديها القدرة على إحداث “أزمة إقليمية واسعة النطاق” من شأنها أن تجعل سورية تبدو وكأنها “لعبة طفل”. ومن ثم تحدث عن إثيوبيا التي يعيش فيها 110 ملايين نسمة، ملوحاً أنه إذا أدّت التوترات الداخلية في السودان إلى حرب أهلية معممة خارج تيغراي، ثم إلى صراع حدودي مع السودان، ناهيك عن التوترات المرتبطة بـ”سد النهضة”، حينها سيتمّ استيفاء جميع الشروط للنظر في زعزعة استقرار أفريقيا والمنطقة بأكملها. وهكذا فإن “محور الخير”، و”المتآمرين” في أجهزة الاستخبارات في السودان والولايات المتحدة وبريطانيا و”إسرائيل” عازمون، رغم إخفاقاتهم، على الاستمرار عبر الحروب الهجينة في مشروع تفتيت أوصال “الشرق الأوسط الكبير” بزرع بذور الفوضى هناك، بما في ذلك امتداداتها، ولاسيما القرن الأفريقي والفضاء السوداني. وبالنظر إلى التصعيد السريع للمأساة الحالية في السودان والاهتمام الذي أظهره أتباع التدخل المعتاد، لا يتعيّن على المرء أن يكون رجل دين عظيماً لتخمين من في قطب مؤيدي التطبيع مع “إسرائيل”، حيث يأسف الكثير من قادة الحركة الوطنية لأنهم استخفوا بالأهمية الجيوسياسية لمملكة النيلين للعالم العربي.

بكل الأحوال لا يمكن المبالغة في أن “سقوط” نظام البشير فتح آفاقاً جديدة لطموحات تل أبيب، هذه دولة عربية جديدة غزاها سحر الأبراهامية بحماسة المتحولين الجدد، كانت تُعرف السودان سابقاً باسم “أرض اللاءات الثلاث” لـ”إسرائيل” (لا للتفاوض، لا للاعتراف، لا للسلام) ولكن في 14 كانون الأول 2020، أعلن ترامب في نهاية سباقه إزالة السودان من قائمة الدول الإرهابية وسوف تستعيد تطبيع علاقاتها مع “إسرائيل”.

في 6 كانون الثاني 2021، أثناء زيارة وزير الخزانة ستيفن منوشين إلى الخرطوم، تمّ التوقيع على الاتفاقية الإبراهيمية، بينما تمّ منح مساعدات مالية أمريكية غير مسبوقة، مليار دولار سنوياً لسداد البنك الدولي.

ويختم ريمبو تحليله بالإشارة إلى أن المواجهة بين إمبراطورية المحافظين الجدد، والكتلة الأوراسية لإعادة تشكيل العالم لا تفقد حقوقها أبداً، ولا يزال الإسرائيليون والبريطانيون- الساكسونيون موجودين، وكان على هذه الكتلة الغربية أن تغيّر لحنها لمواجهة روسيا والصين في السودان والقرن الأفريقي، خاصةً وأنه لم يعد من الممكن الاعتماد على المملكة العربية السعودية ودول الخليج، أو على مصر، في ضوء التغييرات الملحوظة في المسار، ولكن الأجندة الغربية لم يتمّ التخلي عنها من أجل كل ذلك، ولهذا فإن السعي إلى تدويل الأزمة السودانية من خلال إدخال الخلافات بين القوى العظمى بشكل منهجي، كان من أجل خلق ذريعة للتدخل الغربي.

وعليه، وفي المنافسة التي أعيد النظر فيها بين الغرب والشرق، يقف السودانيون جميعاً على خط المواجهة نفسه، ويتعرّضون لكل رياح الجغرافيا السياسية.