اللوحة التشكيليَّة.. بريدٌ عاجـلٌ بين الفنان ومتابعيه
قال الفنان التشكيلي (بولياكوف): “ليس نجاح اللوحة في إقبال الجمهور على شرائها، لكي تكون ناجحة، يجب أن تكون شيئاً ذاتيَّاً، أعني رسالة شخصيَّة يريد الفنان إيصالها إلى نفوس الآخرين”..
وها هنا في معرض الفن التشكيلي، الذي أقيم في نقطة المركز الثقافي (محارب الأحمد) في مدينة حمص مؤخراً، تعددت الرسائل بلغة اللون والحسِّ والبعد الإنساني، لتعكس ما دار من توافق حسيِّ عميق بين الفنان وريشته، بين الخطوط وسحر الموهبة، بين عين الفنان التصويري ودقة الملاحظة.
ما يلفت الانتباه في أعمال الفنان الخطاط أحمد منصور حقيقة ذلك الإبداع المتميِّز بالدقَّة، وحسن صياغة الخطوط العربيَّة، معتمداً طريقة التفريغ اللاصق على الزجاج بألوان بنفسجيَّة مثيرة للانتباه، لقد ذكّرتني لوحاته بطريقة إبداع الفنان التشكيلي (بول كلي) حين قال: “إننا نرسم بخط أسود على أرضيَّة بيضاء، لماذا لا نرسم بخط أبيض على أرضيَّة سوداء، لماذا لا تكون يدنا خطَّاً من النور، يشقًّ ظلمات الليل؟”..
بهذه الرؤية بدأ يرسم بالإبرة على الزجاج المطلي باللون الأسود، فهنا يكمن سرّ الإبداع في إنجاز أعمال متميِّزة لا تخطر على بال، فاختيار الفنان منصور لتقنيَّة التفريغ على الزجاج، ربَّما يكون له مستقبل وافر من العطاء والتجديد، وهذا ليس ببعيد عن فنان واثق من نفسه.
الفنان التشكيلي (أحمد العلي) تبدو طفولته المعذَّبة مختفية خلف لوحاته التي تحمل طابع الحجارة، والتي تظهر فيها المقدرة العالية على تركيب اللوحة الأثريَّة المتقنة في بنائها ودقَّة تفاصيلها، خاصة حين يلتقي اللون الترابي مع لون السماء أو البحر.
وعلى الرغم من خوض الفنان في تفاصيل الصخور، إلا أنه يمتلك ضربات ريشة رقيقة في الكثير من اللوحات، وخاصة في تجسيد تلك اللمسات الغباريَّة التي تتصدَّر بعض اللوحات، وأشير هنا بالتحديد إلى لوحة لمنظر طبيعي، قد تبدو للوهلة الأولى بأنها عاديَّة جداً، ولكن لمن يأخذ في تحليل تفاصيلها، ويدخل في أعماقها ببساطة، تجبره على الوقوف أمامها بلا شكٍّ، حيث تتداخل فيها الحجارة الصغيرة المتناثرة مع الأعشاب الحراجيِّة والتراب، فتشهد توغُّل تلك اللمسات الغباريَّة، وكأنك تشعر تماماً برائحة المكان، ودفئه، ومتعة الطريق المنفتح على اتجاهات متعددة، والذي لم يأخذ شكله الترابي المحدد المرصوف بعد.
وما يميز فنان التصوير الضوئي (باسل النيصافي) هو طريقة استخدامه لتقنيَّة فن التصوير أولاً، وحسن اصطياده للقطة المدهشة ثانياً، وقدرته على تحديد اللحظة الفنيَّة المناسبة للقطة ثالثاً.. لوحة الباب الحجري في حمص القديمة (حمام الباشا) استخدم فيها تقنيَّة تعطيها غنى في اللون والتفاصيل أكثر من غيرها، أما لوحة الطفلين اللذين يدخّنان، فكانت بالإضافة إلى جماليَّة اللقطة، تحمل هدفاً ناقداً لعين استطاعت خطف المشهد الحساس في مجتمع أمست فيه الطفولة بحالة حرجة.
ويعلق السيد (عدن عواد) على المعرض قائلاً: يحتوي على أفكار جديدة وذلك في لوحات الفنان (أحمد العلي) الذي يبدو للمتابع له ازدياد خبرته وتطوره بشكل لافت.. كما يظهر حسن اختيار الفنان (باسل النيصافي) للحظة المناسبة لأخذ اللقطة المميَّزة، فالوقت كما هو معروف، يغيِّر من طبيعة الظل والنور في كل ثانية، وهذا واضح في لوحة الطفلين المدخنين فالسماء تبدو كامدة، وكأنها حزينة لما يجري.
اللوحة تستقبل زوَّارها، لكنَّها هي من تفرض عليهم مدَّة البقاء أمامها، فكلَّما أطال المشاهد زمن المكوث أمام اللوحة، كلما ارتفعت وتيرة اعترافه بجمالها، ومن هنا يتعمَّق الحس الفني لدى المشاهد، فما عليه سوى الإجابة عن سؤال الفنان: هل وصلت الرسالة، أم لا؟.
ولا بد من الاعتراف أن هذا المعرض وضعنا أمام حالات فنيَّة متميِّزة، ونأمل أن نتابع معارض تشكيليَّة فرديَّة، لما لها من أهميَّة تطوريَّة للمتابع أولاً، وللفنان ثانياً.
سريعة سليم حديد