ثقافة

رحل صاحب أنا سوري آه يانيالي

ميزة المبدع عندما يرحل أنه يترك أثرين: ما ينتجه كمبدع من إبداعات، وما يتركه كإنسان من سيرة في ذاكرة المحيطين به، لذلك فقد تنوعت وتعددت الذكريات التي تركها الراحل عبد الرحمن آل رشي في مخيلة الذين عملوا معه وفي قلوب المقرّبين منه، فكيف إذا اجتمع الأمران معاً كما عند المخرج التلفزيوني غسان جبري الذي التقى مع الراحل في العديد من الأعمال، مشيراً في تصريحه للبعث إلى أن آل رشي يحتل في ذاكرته مكانين: الأول كمبدع ينتمي إلى جيل الرواد الموهوبين الذين لم يدرسوا الفنّ دراسة أكاديمية بل كان دافعهم الأول فيه هو ذاك الحبّ الذي كان المحرك الأول للسير في هذا الطريق الصعب أمثال الكبار: عبد اللطيف فتحي، علي الرواس، محمد خير حلواني، رفيق سبيعي الذين أتوا بدافع الموهبة وقد عانوا الكثير من الصعوبات ودفعوا الثمن غالياً لحبٍّ أخلصوا له، فكان الراحل بمسيرته الغنية رجل الشاشة بجمهوره ومريديه والذي يحترم كلمته ومواعيده، وهذا ما لمسه لمس اليد جبري حينما تعددت الأعمال التي التقيا بها: “الطير، غضب الصحراء” مع تأكيده على أن أحلى دور قام به معه كان من خلال مسلسل “القيد” إلى جانب  إعجابه بما  قدمه  الراحل في أعمال أخرى، لاسيما الأعمال التاريخية التي حقق فيها حضوراً قوياً، إلى جانب حضوره اللافت للانتباه في أعمال البيئة الشامية التي أخذت حيزاً كبيراً ومهماً، فكان انضمامه إلى زعماء الحارة الشامية مكسباً لهذه الأعمال.
كما لم ينسَ جبري دور آل رشي في فيلم “المخدوعون” من خلال شخصية أبو خيزران،  التي أبدع في تجسيدها، مؤكداً أيضاً أن الراحل كان وسيبقى في ذاكرته الشخص والفنان القوي الذي رفض أن يتنازل ولم يرضَ أن يشتغل إلا ما كان مقتنعاً به، بالإضافة إلى احترامه كممثل للنص ورؤية المخرج الذي لا يناقشه ويفعل ما يطلب منه دون تذمّر. وختم جبري كلامه مشيراً إلى أن آل رشي كان وطنياً بامتياز، وأي عمل يقوم به من أجل الوطن لا يتردد في المشاركة فيه دون مقابل، لذلك فإن الدراما السورية برحيله تكون قد خسرت أحد الذين بدؤوا مع تأسيس التلفزيون السوري وقد شارك في عدد كبير من الأعمال ومثّل من خلالها سورية بشكل جيد أينما كان .

من أعلام الدراما السورية
ولأنه كان بالنسبة للجمهور السوريّ علماً من أعلام الدراما السورية وجد الفنان سليم صبري صعوبة في تقديم شهادة بحق هذه القامة التي كانت تعتز سورية بوجودها بيننا ليكون واحداً من الفنانين السوريين الذين لهم علامة واضحة ليس لها مثيل، موضحاً أن الدور الذي يقوم به يمكن أن يقوم به أي فنان آخر، لكنه لا يمكن أن يقدمه كما يمكن أن يقدمه آل رشي الذي تميز بأدائه الشخصيّ وحضوره الجميل وصوته الجزل، مؤكداً صبري أيضاً أن ما سيقوله عن آل رشي الإنسان يعرفه كثيرون وهو الذي كان يتصف بلطافته وأنسه وخدماته الكثيرة التي كان يقدمها للناس انطلاقاً من محبته ورغبته في تسيير أمورهم،  وبرحيله تكون الدراما السورية قد فقدت فناناً وإنساناً كبيراً.
أما المخرج مصطفى فهمي البكار الذي عرف آل رشي منذ الستينيات فبيّن أن تاريخاً طويلاً تقاسمه مع آل رشي في عالم الفن وكذلك الصداقة، منوهاً بالحضور المتميز الذي حققه منذ ذلك الحين عبر أي عمل شارك فيه، متوقفاً عند تجربته كمخرج مع آل رشي في المسلسلات الإذاعية الشهيرة كـ “حكم العدالة” وقد كان مع الفنان رفيق سبيعي القاسم المشترك فيه.   وكما كان يتألق آل رشي في أعمال البكار كان كذلك على الصعيد الإنساني برأي صبري فعُرِف بأنه حرّ النفس ويرفض أي عمل لا يرضي طموحه، ولأنه كان يرفض اللون الرماديّ كان صريحاً جداً، نظيف السريرة، حنوناً، وحافظاً لآلاف من القصائد الشعرية، ذا حساسية عالية، متمتعاً بذاكرة ندرت عند الآخرين، ولاسيما ذاكرة الشعر الذي حفظه عن ظهر قلب، وبالتالي فإن خسارة الفن في سورية برحيله خسارة كبيرة لا يمكن أن تعوض.
وأسفت الفنانة فدوى محسن لرحيل هذا الفنان الكبير الذي شقّ طريقه إلى عالم الفن بجهوده وعصاميته واجتهاده وإصراره وحبه لهذا العالم فنجح في أن يحتل مكانة مهمة في مسيرة الدراما السورية، فكان رجل الدراما بحقّ، لا يشبه أحداً، متميزاً بصوته وقلبه، فكان الصادق والصريح والإنسان بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى.
في حين بيّن الناقد عبد الناصر حسو أن صاحب، “أنا سوري آه يانيالي” رحل في ظل الموت المجاني، ليس افتراضياً متخيلاً في الدراما، بل هو موت حقيقي، رحل، كما رحل بصمت في الأيام الأخيرة مبدعون عمالقة من زمن الفن الجميل، حملوا راية الدراما السورية على أكتافهم، ونشروها على شاشات فضائيات الوطن العربي، ويحزن حسو أن مبدعين رحلوا بصمت دون ضجيج إعلاني أو شعبي، احتجاجاً، واستنكاراً لما يجري على الأرض السورية، رحلوا وهم يصرخون أوقفوا هذه الحرب، أوقفوا الدمار الإنساني. أما عبد الرحمن آل رشي، وتلك الضحكة المجلجلة، وذلك الصوت الذي لا يقهر، قهره الموت، وهو ذلك الرجل القادم من الزمن الجميل الذي صنع مجده بيده على مدى أكثر من خمسين سنة، قهره الموت..رحل لنعود ونتذكر شخصيات غليص وزعيم الحارة ومئات الشخصيات التي جسدها على الشاشات، ليبقى في ذاكرة الأجيال القادمة، مشيراً حسو إلى أن الراحل تنقل بين خشبات المسارح ووقف وراء الميكروفون وظهر عملاقاً على الشاشات الكبيرة والصغيرة مسطراً تاريخاً حافلاً بالإنجازات، يقدم اسم سورية عالياً. ومتوجاً بأغنيته الشهيرة التي سمع بها ورددها كل من يفهم العربية “أنا سوري آه يا نيالي”. لينعش ذاكرة الملايين، ويلهب أكفهم.
وختم حسو كلامه مؤكداً أن عبد الرحمن آل رشي رحل جسداً، وسيبقى إبداعاً وكنزاً وطنياً متحركاً لا ينضب. ويسلم الروح لباريه متحدياً العالم كله مفتخراً بأعلى صوته: أنا سوري.. أنا سوري.
أمينة عباس