الرواية ونهايات القرن … غبرييـــل ماركيـــز.. مئـــة عــام من الحضـــور
إذا كانت حياة الروائي الكولومبي الأشهر غبرييل ماركيز الإبداعية تقال بمجاز رهيف: “تعبير عن قارّة”، لا مفارقة هنا على الإطلاق إذا أدركنا أن ثمة تراثاً ثقافياً وإنسانياً هائلاً اجتذب الرواية وعاء لأرض أمريكا اللاتينية، وطبقاتها، وكثافة أحلامها، وحكاياتها، وصورها.
وثمة روائي قادر على أن يجعل من الرواية – دون أن يهجر القصة القصيرة- ذات جدوى، وفعالية، وتعددية في الوظائف، هو أكثر من صحافي، ورحّالة، ومحام، وكاتب عمومي، ومؤرخ أزمنة عصيبة، وصانع لأسطورته الخاصة، وخزّان رموز، وسفير لثقافة لا حدود لها، هو ماركيز، المعادل الإبداعي لقارة مترامية الأطراف “النوبلي” الذي طالما خامره شعور ذو طبيعة خاصة: “ماذا يشعر المرء حين يمنح جائزة نوبل؟”.. وهو من كان له حب استطلاع جمّ لمعرفة الطراز الذي يتلقى فيه البشر أخبار الأحداث التي قد تغيّر مجرى حياتهم، ليكتب –ماركيز- ما لم يزد عن خمس عشرة صفحة، وهي أصعب ما كتبه في حياته، كخطاب سيتلوه على مسمع من الجمهور في قاعة الاحتفالات، بمبنى الأكاديمية السويدية، إثر منحه جائزة نوبل، لكن صاحب العلامات الباذخة، من روايات ساحرة، من مثل: “خريف البطريرك، مئة عام من العزلة، الجنرال في متاهته، ذاكرة غانياتي الجميلات”، وسواها من أعمال، مازالت تلتهم المخيّلة الإبداعية الكونية، باتساق عوالمها الروائية، وطاقاتها الدلالية، ومرونتها الفائقة، لتخترق، وتعبر أمداء الذاكرة الإنسانية، فكيف “نفخ” –ماركيز- سرّ الخلود بها، وجعلها خصبة للتذوق، والتحليل، والمقارنة؟ وهل كان “جملة استثنائية” في سياق خطاب روائي معاصر؟!.
لا يمكن الحديث عن استنفاد ماركيز للكتابة، نتيجة إعلانه الاعتزال عنها، لأنه كتب إبداعاً قابلاً للتأويل في ثقافات العالم، وهو كتب بالاسبانية، والبرتغالية، وكان الأقرب لتوريث تجاربه الروائية، بأنساقها المميّزة في صياغتها لأساطير أدبية، نقلت الوعي الروائي العام إلى وعي روائي بظاهرة روائية، جعلت الوجود الروائي في حالة تشابك مع الوجود الاجتماعي، بمعنى سيرورة التحولات المجتمعية، كيف تصبح في وعي روائي عظيم، معادلة –أيضاً- لمغامرة الحياة العجيبة، ولمعرفة الحب والقدرة على تصوّر السعادة، وأن تصبح الرواية ذاتها كرؤيا الشعر وبصيرته، ألم يذهب النقاد العرب للقول بأن الرواية هي “الديوان”، وأرادها بلزاك في مستوى “خطر رجل العلم”، وأرادها هيجل أن تمارس وظيفة أساسية هي تصوير الفرد في وسطه اليومي، ورآها الكبير حنا مينه “أداة التعبير الرئيسية”، والمستقبل لها.
وإن كان امتداح الرواية يحيل لامتداح الروائي، بمعنى من المعاني، فإن ماركيز المعادي للغرب، ولسياساته الثقافية، وعبر منجزه الذي تعرفت فيه، الشعوب، ورجال الأدب ونساؤه، على ذاتها، ليكون المبدع مناضلاً وشاعراً يتلمس إشكاليات حيوية، وليس “موضات المثقفين”، ليعبر عنها بدينامية ليعكس صورة ثقافة وطنية، بقدر خصوصيتها تنفتح على كونيتها، ولا يجد كارلو فونتيس أية مفارقة في الكتابة عن قارة آهلة بالأميين، لاسيما في قارة ساخنة مليئة بالتناقضات والتحولات، ربما بحثاً عن معادل سياسي، وأخلاقي، وفكري، وثقافي، وعند الكاتب البيروفي الشهير ماريو باراغاس يوسا، تصبح الكتابة في أمريكا اللاتينية في معناها “مسؤولية اجتماعية”.
ربما يغدو السؤال نافلاً، ذلك الذي يقول: ترى هل انقلبت –برحيل ماركيز- صفحة هامة من تاريخ السرديات الكبرى بثيماتها الباذخة، ومنها “الواقعية السحرية”؟!.
إن “موت المؤلف”، لا يعني سوى ولادة للقارئ وللتأويل، وذهاب لمرجعيات النصوص الروائية، لإدراك معنى الريادة الروائية التي لم تنهض على عبقرية اللغة فحسب، بل على معنى المغامرة السردية التي اتكأ عليها ماركيز، ليضيف تصوراً جديداً لمعنى الرواية، والتاريخ، والأسطورة، بعيداً عن إنهاك الشكل الروائي، لتكون الدلالة في قلب العلاقة الروائية ونسيجها، وعلى مسافة ذلك الشغف المزدوج، كان المترجم العربي صالح علماني ينقلنا بكفاءة ترجمته، وذائقته، ومعرفته إلى عوالم ماركيز الأخرى، لنقف على مفارقة الأدب والحكاية –لدى ماركيز- ولندرك أن الكتابة أصبحت هي الحياة التي عاشها ماركيز ليرويها، فاحتفت بحضوره، بقدر حفاوته بها، بثنائياتها، وبأزمانها وأمكنتها، بل بقولها المفتوح لأمكنة وأزمنة أخرى.
أحمد علي هلال