«عالمشفى يا بوووو فههههد»
لا أدري لماذا بدأت حكاية سينمائية نوعاً ما تدور في بالي، وأنا أقرأ مادة عن الفنان الشعبي “عمر سليمان”، صاحب الأغنية المصيرية “وينو وينو”، تفيد المادة بما يلي: جديد عمر سليمان إطلالته على مسرح “سبكتروم” في العاصمة النرويجية اوسلو، ضمن الحفلة الموسيقية المخصصة للاحتفال بجائزة نوبل للسلام، والتي يتم تنظيمها سنوياً منذ عشرين عاماً، في يوم 11 كانون الأول، أي بعد يوم واحد من الحفل الرسمي لتسليم الجائزة، وشارك سليمان في الحفلة إلى جانب المغنين البريطانيين: جيمس بلانت، وموريسي، وجاك باغ، والمغنية السويدية زارا لارسن، وغيرهم.
رحت أتخيل حكاية، كما قلت لكم، بينما أنا أقرأ المادة.. عن رجل ستيني وقور، بشعر أبيض، ويدين ناعمتين للغاية، موسيقي سويسري أو مايسترو عالمي قائد أهم اوركسترا في العالم، حضر إلى هذا الحفل، ثم بوقار موسيقي جلس كعلامة “دو” فوق مقعده منتظراً أن تبدأ حفلة الأكاديمية السويدية المعروفة، طبعاً هذا الموسيقي من المتطرفين في عمله، فهو بحالة بحث دائمة عن كل شاردة وواردة في علم الموسيقا، لا يقتني موبايل مثلاً كي لا تتسخ أذناه بضجيج يستطيع التخلص منه، يفضل قبل أن يجهز لأي حفل عالمي، أن يذهب لمدة شهرين على مركب في زرقة البحر، وحده هو والطبيعة، وموسيقاه الكونية، ثم يبدأ عمر سليمان بالغناء: «ضبي نهدك يا بنية طالع نصو»، طبعاً الموسيقي صُدم قليلاً، لكنه تمالك نفسه، ثم بدأ بتأنيبها، قائلاً بينه وبين نفسه: كيف تسمحين أن أحكم على إرث الشعوب، فقط لأنني لا أفهم لغتهم؟.. لو كان الأمر هكذا لتنازلت الموسيقا عن دورها التاريخي بكونها لغة الشعوب، “طبعاً أبو وديع جورج وسوف له رأي مختلف، فهو يجد أن بطحة عرق توفر الترجمة، وبالتالي ما حاجتنا للغة”.
ثم تابع صديقنا الموسيقي باهتمام مجريات ما يحدث من نكبات على المسرح، فجأة ينظر سليمان إلى فرقته المؤلفة من “3 أورغات بثلاث طبقات للأورغ الواحد، وعازف كمان لا يفعل أي شيء مفيد، وشبابة لزوم الفلكلور، وأربعة فتيات يتطوحن دون أدنى تنسيق فيما بينهن، “ينظر” عمر سليمان “إلى فرقته فجأة، ثم يقول بحماس، وهو يلوح بيديه: “لاقيلو”، وعندما يسمع أعضاء الفرقة هذه الكلمة الطويلة في لفظها، تشتد حماستهم، ويصبح الكمان طبلاً، والشبابة تصير وكأنها راقصة شرقية، والجمهور يكاد يأكل بعضه من الحماس والزعيق.
هنا سيقف الموسيقي وقلبه منفطر، فهو لم يدخر جهداً طوال أربعين عاماً، في التعرف على موسيقا الشعوب، وعاداتهم الموسيقية، مسروراً بكونه من بلاد تقدر هز العصا بطريقة مجنونة ومختلة، وتدفع له لجهده الجهيد، مبلغاً محترماً من المال والكرامة، إلا أن ما كسر ظهره، وجعله يفكر بالانتحار بالغاز بشكل جدي، هو وصوله لنتيجة تقول: بأن حياته لم تكن مجدية، فها هو في المضمار الذي يتفوق فيه على الجميع، ورغم ذلك جاء من “غامض علمو” من هز له عرش كبريائه، وغروره بكلمة “لاقيلو”، وما تفعله بالموسيقيين، والجمهور على حد سواء، بينما هو قضى حياته متدلياً من تلك العصا، يأخذها معه حتى إلى سريره ، ينام وهي بين ذراعيه، ورغم ذلك ليس لها ولو ربع مقدار من سحر، وتأثير “لاقيلو”.
طبعا الموسيقي غاب عن الوعي حينها، وهذه الغيبوبة التي ولجها كانت من العناية الإلهية بحيث إن صديقنا الموسيقي السويسري، لم يستمع لـ «عالمشفى يا بو فهد».. أنهيت قراءة المادة والحكاية في الوقت نفسه.
هذه رؤية الغرب لفننا، هكذا يقدرونه في حالته الأسوأ.
تمام علي بركات