“أوستن لاند وألكس كروس” في فعاليات السينما في السويداء
تضمنت فعاليات السينما التي أقيمت في المركز الثقافي في السويداء فيلمين في يومين متتالين، الأول بعنوان أوستن لاند (Austen Land وهو من إخراج جورشا هيس، تأليف وسيناريو: جورشا هيس، شانون هيل. بطولة كيري راسل، جنيفر كوليدج.
يحكي الفيلم قصة ولع الناس بروايات جين أوستن. تبتدع واتلسبورك طريقة لكسب الرزق، فتوفر للمهووسين بروايات أوستن العيش في أجواء رواياته مقابل مبالغ طائلة. تسافر جاين وصديقتها تشارمينغ إلى القصر لتأخذ كل منهما دوراً من روايات أوستن بعد أن حفظته عن ظهر قلب، وهناك تقابلان بقية الشخصيات المحمولة بالرغبة ذاتها ليبدؤوا رحلة الخيال. تؤدي كلُّ شخصية الدور المحدد لها سلفاً من قبل مديرة القصر سواء أعجبها أم لم يعجبها، ولاسيما جاين التي ترغب في دور يطلق حواسها، ويرضي ميولها أكثر من دور فتاة يتيمة في القصر. تنهض الشخصيات من سِفْرها المكتوب لتمثل الخيال، مدفوعة بمشاعر التبس فيها الواقع بالخيال، فتوثَّقت العلاقات القائمة بقيد الواقع، وغدت حقيقية، تصرّف كلُّ شخصية مسارها فيما تكمل بها حياتها بعد انتهاء رحلتها الخيالية. تشعر جاين بالسقم من علاقات قائمة على الخيال، وهي المدفوعة برغبة في علاقة تمكنها من إيجاد زوج المستقبل، فترفض علاقتها بالرجل النبيل نوبلي، لأنها وجدت في نفسها ميلاً أكثر إلى عامل الإسطبل مارتن، وهي لا تعلم أنها بهذا تبتعد عن الرجل نوبلي الذي خرج عن النص وأحبها بكل جوارحه، وتقترب أكثر من أحابيل خيال مديرة القصر، التي أوعزت إلى مارتن أن يوقع جاين في حبه، ويسطو على مشاعرها كي تبعدها عن نوبلي. تغادر جاين القصر آسفة لإراقة مشاعرها مجاناً على صفيح الخيال، غير أن نوبلي العاشق الحقيقي يلحق بها ويطلعها على الحقيقة ليحظيا بفرادة المتخيل الواقعي.
يرصد الفيلم تعقيدات الخيال وبقاءه مشدوداً إلى أتون الواقع بغض النظر عن الإطار الفني له، فمشاعر مارتن تلتهب حباً بجاين أثناء أدائهما دوري العاشقين لقصة مسرحية مضمَّنة في القصة التي تمثلها أصلاً الشخصيات، كتبتها مديرة القصر، لتُعرض على سادة القصر كلون من ألوان الترفيه الفني تعيشه شخصيات أوستن. فنحن أمام قصة الفيلم الواقعية، قصة الشخصيات الراغبة في تمثيل حياة شخصيات أوستن، وهي القصة البوصلة المتحكمة تماماً بقصة شخصيات روايات أوستن وقصة المسرحية التي كتبتها شخصيات هذه الرواية. ولا ننسى أن نشير إلى أن المخرج أخرج قصة روايات أوستن بنفس كوميدي مغاير لذوق عصر أوستن نفسه، ليسجل بذلك قصته الأخيرة من منظور ذاتي. وبرغم كلِّ ذلك لا يسير الفيلم في اتجاه واحد حتمي من الحقيقة الواقعية إلى الخيال، إذ يظلُّ الخيال إكسير الحياة المعاشة بعد خروجهما من قصر أوستن، فنحن أمام جدلية الحقيقة والخيال الدائمة بدوام العقل والقلب في الإنسان، ويظل الواقع هو العنصر الحقيقي في الخيال.
أما فيلم “ألكس كروس”، إخراج: روب كوهين، بطولة: تايلور بيري، ماثيو فوكس، فيحكي قصة تعقُّب قاتل مأجور، يقوم بأكثر من جريمة قتل مروّعة تطال أحد أعضاء التحقيق “مونيكا” و”مايا” زوجة المحقق “ألكس كروس”، فتنقلب إجراءات التحقيق من قضية عامة إلى انتقام ذاتي، يتولاه كروس المفجوع بزوجته وزميلته في العمل، وبهذا تتضامن الكاميرا في مسيرتها مع البطل كروس وفق منهجية ذاتية، تتابع كروس في ملاحقته أحد المطلوبين للعدالة، وتقدم سلفاً للمشاهِد بطاقة اطمئنان، تضمن تفوُّق كروس على أيَّ مجرم مهما بلغ من الاحتراف، وفي الوقت ذاته تحقق عنصر المتعة في متابعة صراع الإرادات بين حملة الحق وحملة الباطل.
تتحكم ثيمة الانزياح بالفيلم من بدايته إلى نهايته؛ إذ تلاحق الكاميرا المجرم الأول تسير خلفه وأمامه، مبرزة قدرته على المناورة والهروب، وبرغم كل ذلك يقع في يد المحقق كروس، وبهذا يشكل انزياحاً في صناعة البطل، فالكاميرا قد أولت الأهمية للطرف الخاسر لا للبطل.
تستمر الكاميرا في انزياحها وتركيزها على المجرم في لقطات مأخوذة من منظور قريب إلى أن يخطئ كروس في تحليله النفسي للمجرم الثاني، فيستبعد أن يستهدف هذا المجرم أياً من أعضاء التحقيق أو عائلاتهم. وتبدأ حبكة الفيلم بالتطور الدرامي الساخن بعد وقوع كلّ من المحققة مونيكا ومايا زوجة ألكس ضحية أعمال هذا المجرم خلاف توقعات ألكس، وبه تتحول شخصية ألكس وصديقه المحقق طومي من شخصية البطل التقليدي إلى الشخصية المحك، وتُفتح أبوابُ صراع الإرادات على أقصاها، ويزداد رصيد التشويق لدى المشاهِد. وتشرِّع لغة الحوار السريع الخاطف بين المحقق كروس والمجرم سبيلاً آخر لاستعار الصراع، يواجه كروس إنذار المجرم له بعبارته: “قال كونفوشيوس: إذا أردت الانتقام فاحفر قبرين”، يمضي كروس في انتقامه لا يلوي على شيء، وفي النهاية يحقق مراده ويقتل المجرم، ويقلب هذا التشفير الفلسفي إلى نقيضه: “إذا أردت الانتقام فاعمل بهدوء واضرب بمطرقة من حديد”.
يخطِّط كلّ من ألكس وطومي للإيقاع بالقاتل بدافع الانتقام لا بدافع تحقيق العدالة الاجتماعية، ولا يجدان حرجاً من إغفال الرخص المتاحة أو تجاوز السقف المحدد لهما، فتزداد المخاوف المحيطة بهما كمحرق مولد للتشويق في الفيلم. وتبلغ الكاميرا حداً من الذاتية في حركتها المنسابة على محورها يميناً وشمالاً كحركة رأس الإنسان، والمقاطع المفتوحة بلقطات منخفضة تعرض أول ما يقع عليه نظر المحقق المتفحص للشخصيات والأماكن، واللقطات المميزة بقلة الوضوح إثر ملاحقة كروس للمجرم، واللقطات الراجفة غير الثابتة إثر القتال الأخير بين كروس والقاتل.
يستحقُّ كلّ من الفيلمين المتابعة لقدرتهما على معالجة القضايا الفكرية الإنسانية بلغة فيلمية توازي قدرة الأدب ذاته على تلك معالجة، ولقدرتهما على كسر احتكار الأدب لها، ولقدرة فيلم “أوستن لاند” على تجاوز حدود اللغة الفيلمية وتراسله مع الأدب في تضمين القصص.
د. مانيا بيطاري