ثقافة

موت كريستالي .. جداً..

“لا لكسر الهوية بعد الآن” لافتة علّقها على حائط مؤسسة حكومية صاحب أحد الأكشاك النامية كالفطر والسرخس في مركز المدينة، حيثما وضعت قدمك ورفعتها وجدت “كشكاً” جديداً، لا يدري إلا الله والراسخون في فن الممكن والمستحيل لمن تعود ملكيتها، إذ إن معظم أصحابها وافرو الصحة والشباب، وليسوا مقعدين أو أصحاب عاهات دائمة “السبب الحقيقي لوجود تلك الأكشاك” عذراً للاستطراد، ولكن الأشواك التي في حنجرتي وتحت أظافري تأبى إلا أن تخزني وتخرّش صوتي وتدمي أصابعي، كلما رأيت السيد “فساد” يتمشى في البلاد وكأنها حديقته الخلفية.

تدلل تلك اللافتة على جودة تجليد الهوية بالكريستال الشمعي الذي يقيها من الكسر، “تقنية شمعية لحفظ ماء وجه الهوية”، بعد أن أدرت ظهري للمؤسسة والكشك والرجل المفتول العضلات الجالس فيه، بدأت تلك الجملة الثقيلة الدم تلعب في رأسي، بل وتحفر في قحف دماغي بالشوكة والسكين “لا لكسر الهوية”، جملة قرأتها مراراً أثناء تطوافي الإدماني في دمشق، إلا أنها اليوم أبت أن تخرج من بالي، حتى إنها اعترضت طريقي وتحرشت بي: “هيْ أنت ما بالك تنظر إلي هكذا؟ أولست جملة جميلة، ممشوقة القد، وافرة الدلال؟ “أي بشرفي إنك هيك”، بعد هذا الغزل الاستثنائي مع الليدي جملة، رحت أسأل نفسي: ولكن كيف يمكن للهوية أن تنكسر؟! الهوية هكذا ببساطة تنكسر كما ينكسر الكأس أو صحن الطعام؟ ولنفرض أنها كُسرت؛ هل يوجد علاج في الدنيا والآخرة يستطيع جبر كسرها؟ أسئلة غريبة راحت تصطدم بي في كل اتجاه، وكلها بمضمون واحد، عنوانه العريض الهوية. تفاصيل مملة فعلاً، لم أستطع تفاديها؛ لذا لجأت إلى عوالم بعيدة في خيالي علّني أجد في خرائب الأيام ما يساعدني في هذا الامتحان الوجودي العسير.
كثيرة هي الأشياء التي حوّلتنا من أطفال يلعبون “بالدحاحل” ويلهون بالحرمان، إلى رجال صغار، أشياء صنعناها لنكبر سريعاً ونفلت من سطوة الأهل، وأشياء ظهرت لوحدها، فاجأنا وجودها وأعجبنا في آن “شعر الوجه، شعر الإبط، شعر العانة، غلاظة الصوت، قرون الشهوة المرئية، نزق غريب يعتني بأوهامنا المريضة حينها”، لكن شيئاً واحداً استطاع بظهوره المادي اليقيني أن يحيل كل دلائل رجولتنا الصغيرة إلى تفاصيل لا قيمة لها تحت وطأة وجوده المدوي، “البطاقة الشخصية” تلك الأنثى الكرتونية التي أعطت فحولتنا صبغتها الرسمية؛ صورة واسماً ورقماً مع مكان وتاريخ الولادة، هي أنت أو أنت هي، دونها لا معنى لكل تفاصيل كينونتك في عالم لا يعترف بوجودك إلا على الورق، البطاقة الشخصية هي الدليل المادي الحقيقي على أنك أنت ولستُ أنا أنت، في أغلب مفاصل حياتنا المائلة القامة، امتحانات الإعدادية والثانوية أو عند قاطع التذاكر، إذا رغبت في السفر إلى محافظة أو دولة أخرى، تلك كانت حدود علاقتي معها، إذ إنني نادراً ما كنت أضطر إلى إخراجها من جيبي حتى في مخفر الشرطة الذي لم أزره بعد، رغم أن كل أزقة حياتي كان من المفترض بها أن تقودني إلى هناك، إلا أن أمراً أو خطباً حدث في البلاد، غيّر وسيغير تلك البطاقة الشخصية وطريقة التعاطي معها والنظر إليها إلى أمد طويل من الزمن.
منذ بداية الأحداث الدامية في سورية ولأسباب كثيرة صارت معروفة حتى للأطفال؛ تحولت البطاقة الشخصية إلى هوية، هوية كاملة النضج، لها وقعها وتأثيرها الفعال في تحديد حيزك الوجودي، وإلى أي عالم تنتمي شئت ذلك أم أبيت، أعجبك الموضوع أم لم يعجيك، يسارياً كنت أم يمينياً، راديكالياً أم ليبرالياً، من أنصار ريال مدريد أم برشلونة، العفاريت الزرق أم القرود السود، لن يفلح أي فكر يحتويك بعد أن ربيته ودرّبته ليتمدن ويمدنك أن يغير في أمر هويتك شيئاً. تلك البطاقة اللطيفة التي تحمل وجه طفل، صارت غولاً رهيباً، والمصيبة أنك لا تستطيع منه فكاكاً، حتى لو أردت ذلك، فمثلاً تستطيع أن ترميها في بردى أو أن تحرقها في النيران التي تلتهم الأحراج الجبلية في المناطق الساحلية والوسطى أو أن تأكلها، إذا رغبت، ولكن ذلك لن يغير شيئاً، أولست أنت أنت؟ تستطيع فعل ذلك كله، لكنك لا تستطيع كسرها، أساساً لا توجد قوة في العالم تستطيع كسرها، أو أن تحولها وتغيرها، ولا يوجد شيء يستطيع أن يعفيك من مزاجها وتأثيرها على الآخر والعكس صحيح؛ لأنها الآن ليست شخصك الكريم، أو ملحقاً يبين صفاتك الفنية والتعبوية (طبيب، معلم، نجار) من أسف، أنها ليست كل ذلك، إنها ببساطة يا صديقي “تيكيت موتك أو ذبحك”، إنها رعبك النائم في الجيب الخلفي لسروالك الجنز المتهرئ.
الهوية!! أي كابوس هذا.. وكيف لم أنتبه إلى أني أحمل قاتلي فوق ظهري وأسير به بين الناس؟ الناس العابرين مصادفة أمامي أو الذين أعرفهم ولا تعنيني بطاقتهم الشخصية، وحتى الذين لا أعرفهم، هم أيضا لديهم هوياتهم القاتلة، رعبهم الملازم لأنفاسهم، رعبهم الكريستالي الذي لاينكسر. “يا أيها الناس لكم هويتكم ولي هويتي”.
بعد تلك الدقائق الجهنمية التي قضيتها مع وعيي الجديد عليّ، كما هو حال أغلب السوريين، قفلت عائداً إلى الكشك ذاته، أعطيت الرجل المفتول العضلات، ذاك الذي ترقد إلى جانبه تلك العبارة الرهيبة دون أن يدري ماذا فعلت بي، أعطيته هويتي، كياني، وجودي، تاريخي وقاتلي، قائلاً له بصوت له أيضا هويته القاتلة: لو سمحت جلّدها جيداً جداً كي لا تنكسر، انتبه لا أريد أن تنكسر أبداً مهما حصل، لم يعرني أي اهتمام، أخذها ومررها بين اسطوانتين صغيرتين تفرزان شمعاً ذائباً، ثم أخرجها وهزها بيده لتجف، مع كل هزة لها بيده كانت حياتي كلها تميد وتضطرب دون أن أشعره بذلك؛ خشية أن يستمرئ هزي.. فخوفي ويكسرها. (طبعاً إحساسي مبالغ فيه) أعطاني إياها: تفضل يا أخ: “كم أراحتني تلك الكلمة رغم وجعها” هذه هويتك وأنا أكفل لك ألا تنكسر. أردت أن أعانقه وأقبّله، ولكنني لا أعرف هويته؛ لذا تريثت قليلاً وأخذت هويتي وشعور غريب يلفني لا أعرف ما هو. هويتي معي، قاتلي نائم في جيب سترتي فوق القلب مباشرة، أساساً، يجب أن يصدر قانون يمنع وضع الهويات القاتلة في المحافظ الجلدية التي توضع عادة في الجيب الخلفي، لأنها هناك ستبدأ بنهشك وأنت حي. أما فوق القلب، فما هي إلا…. وينتهي الأمر، عندما يموت شخص ما وبعد إصدار معاملة الوفاة يعيدون إلى ذوي المتوفى هويته، ولكنها تعود مقصوصة إلى نصفين أو مكسورة لتدل على أن صاحبها إنسان ميت، هوية مكسورة تعني إنساناً ميتاً، أي عبث أقول؟!.
أتأملها أحياناً، بعد أن يعيدها إلي شاب طيب يقف على حاجز تفتيش، أنظر إليها وأرى موتي المؤجل نائماً مسالماً بين يدي. وداعاً أيتها البطاقات الشخصية المسالمة، وداعاً إلى أجل غير مسمى.. يا أيها الناس سارعوا إلى تجليد هوياتكم بالكريستال. هل يوجد موت يضاهي الموت الكريستالي؟.. صدقوني لا يوجد ولن يوجد.

تمام علي بركات