البعد الحضاري في الانتخابات
فاق إقبال أبناء الجاليات العربية السورية خارج الوطن على الانتخابات التوقّعات، لأنه في الوقت الذي يعرف فيه الجميع حرص أبناء شعبنا على دولتهم الوطنية بمؤسساتها وثوابتها ومبادئها لا يمكن نكران حجم الضغوط والتضليل الذي مارسه أعداء سورية ضد هذا الاستحقاق الوطني الديمقراطي. وهذا مايقدّم مؤشراً واضح الدلالة على الثالث من حزيران.
لقد خاب رهان أقطاب المشروع الصهيوأطلسي الرجعي العربي على الزعّار والدعّار واللصوص والعيّارين لأنهم يجهلون قراءة التاريخ والواقع، ومن المؤكد أن الغربيين الذين دعموا الإرهاب لإسقاط الدولة الوطنية السورية، قد تجرعوا كأس الخيبة المرّة والصدمة القاسية، وهم يشاهدون الآلاف من السوريين في لبنان وغيره يزحفون الى صناديق الاقتراع، وأن قناعاتهم السياسية التي بُنيت على الرغبات أكثر منها على الوقائع والحقائق، قد تزعزعت، ولن يطول بها الوقت حتى تتغير.
واليوم تأتي الانتخابات الرئاسية في سورية في سياق مرحلة تعيش فيها البلاد انتقالاً نوعياً في طريق الأداء السياسي والاجتماعي يتفق فيها المرشحون على الثوابت الوطنية وينطلقون من «الحق في الاختلاف» في أساليب الوصول الى الهدف، يتفقون على الحل السياسي الوطني الداخلي، وعلى القطيعة الكاملة مع الإرهاب والتكفير والتخريب، وعلى الصمود ومقاومة المشروع الصهيوني الرجعي وردع العدوان على سورية الشعب والدولة الوطنية والعروبية.
ولن يظفر الوطني والعروبي موضوعياً بوجهة نظر تنتقد الانتخابات تستحق الاهتمام لأن الإقبال الوطني الطوعي والعفوي عليها يصدر من حرص على المكتسبات والمنجزات التي حققها الشعب السوري عبر تاريخه العريق، والدولة الوطنية التي قاومت وستقاوم وصمدت وستصمد في وجه العدوان على مصالح الشعب وحقوق الأمة وقضاياها العادلة والمصيرية في وجه معترك ليس طارئاً ضد الاستعمار والرجعية وقوى الظلام بأشكالها التقليدية والمتجددة.
فالانتخابات التي نعيش تأتي في إطار استحقاقات وطنية ديمقراطية عبر مشروع إصلاح متكامل ناجز، تأتي في موعدها كجزء من مسيرة مواجهة العدوان لشعب متحضر يسكن مهد الحضارات والتاريخ العريق في بلد التنوع والتسامح والعطاء، وطن جميل وشعب حي سرعان مايلفظ قوى الظلام والدمار والإرهاب والاحتلال.
وعلى هذا الأساس تكون المشاركة فيها فرصة للتعبير عن الوعي والانتماء والالتزام الوطني الإنساني. كما تكون مقاطعتها أو التخلف عن أداء الواجب فيها استجابة للرهان على هذه القوى التي طال الرهان عليها وفشل، وبالتالي فلا مبرر إطلاقاً أمام من طالب بتأجيل الانتخابات انتظاراً لفرصة لن تتحقق أبداً تستجمع فيها هذه القوى حقدها ومأجوريتها وعمالتها عابرة الحدود. فالفرصة المنتظرة هي للوطني وليست للإرهابي الجوّال، والرهان على الحضاري وليس على الهمجي.
وعلى هذا الأساس أيضاً بنى أبناء الجالية العربية السورية موقفهم وإقبالهم على الانتخاب أمس في البلدان التي سمحت لهم ممارسة حقهم الوطني الديمقراطي، وهم ينظرون الى ممارسة حكومات البلدان التي صادرت هذا الحق واستلبته منهم على أنها ممارسة عدوان وجبن وعار على السلوك الحضاري والمتمدّن أيضاً.
ولا أدّل على البعد الحضاري في الانتخابات من القواسم الوطنية المشتركة العديدة بين المرشحين حيث يسجّل المتابع ارتياحاً شعبياً لتلقي خطاب المرشحين إذ ثمة تقارب كبير فيما يتعلق بالأولويات والقضايا الاجتماعية والوطنية والعربية والدولية، فلا إفراط في الوعود، ولا مفاضلة في التركيز على محاربة الإرهاب والعدوان. فهناك إعادة إنتاج متشابه للخطاب الوطني المنطلق من التركيز على هوية الدولة الوطنية وعلى دورها وأهدافها الداخلية والإقليمية والدولية، ولا كبير اختلاف في الوقت نفسه على الموقف النقدي من الأداء الحكومي، ولا على الدور الوطني للمعارضة، ولا على أن الشعب والدولة أمام مواجهة مصيرية مع أعداء تاريخيين ومشتركين في منطقة حبلى بالإشكالات التاريخية والراهنة، منطقة يستحق الرهان فيها وينجح على الدور الحضاري للشعب العربي السوري.
وإذ أثبت أبناء شعبنا في الخارج أمس وعياً والتزاماً وانتماء نوعيّاً، فسيثبت أشقاؤهم في الوطن في الثالث من حزيران الأمر نفسه حين سيختارون من يملك القدرة على إخماد فتنة أضرمت نيرانها قوى الشر، وأججّت الأحقاد فيها الصهيونية والوهابية، من لم ولن تنحن قامته الشامخة بصمود لا يلين، وبعزيمة بلا ضفاف، وقد تنكّب مقاومة لا تتراخى في وجه العدوان والاحتلال والإرهاب ليكون بحق الأقدر على إعادة إعمار مادمرّه الأعداء مادياً ومعنوياً وروحياً.
د. عبد اللطيف عمران