البعث أونلاينسلايد الجريدةصحيفة البعثكلمة البعث

البعد الأخلاقي والحضاري في الزيارة

د. عبد اللطيف عمران    

حظيت زيارة السيد الرئيس بشار الأسد والسيدة الأولى إلى الصين بعدد كبير من المتابعات والمقالات والدراسات والتحليلات والتوقعات والترقّب أيضاً، وأثارت في الشرق والغرب المضطربَين غبطة الكثيرين وتطلعاتهم إلى عالم وواقع أفضل.
هناك من انصرف إلى البحث عن الحديث المباشر والتقريري عن المصالح، وعن الجوانب الاقتصادية، والمنافع المادية المتبادلة، وهناك من سحره هذا البعد الجديد في العلاقات الدولية بين الشعوب والحكومات المستند إلى معطيات الروح الشرقية بملامحها الإشراقية والصوفية، هذه المعطيات وذاك البعد هما اللذان يعززان المنافع والمصالح المتبادلة على أساس من الرقيّ، والتسامي اللذين يصدران عن الأخلاق والروح والوجدان والصدق أيضا، وهما الحاملان الأساسيان للوظيفة الضبطية في المجتمع والدولة.
هذا البعد في العلاقات كان ساطعاً بقوة في المناخ العام المحيط بالزيارة، ليس فقط في لقاء القمة، بل فيما سبقه، وواكبه، وتلاه. إذ تكررت الجُمل والمفردات الواقعة في الحقل الدلالي للقيم الأخلاقية والحضارية، وهو سمو وتعالٍ ورُقيّ في عالم اليوم الذي تنهش في جوانبه أنياب الامبريالية والليبرالية الجديدتين، وسياسات الهيمنة وأحادية القطب والعقوبات والحصار والاحتلال والتدخل السافر، تلك السياسات التي تلجمها القيم الأخلاقية والحضارية، وتبدد استراتيجيتها ووحشيتها أيضاً.
لم يتقدّم اليوم ويتطوّر الحديث عن (التوجّه شرقاً) من فراغ، ولم يُبنَ على المنافع المادية المحضة، فنحن وأصدقاؤنا في هذا العالم ندرك مآلات سياسات الاستشراق (Orientalism) الغربية بأبعادها الفكرية والسياسية والاقتصادية والتي رافقت ولاتزال ترافق الاستراتيجية الاستعمارية القديمة والجديدة منذ قرنين من الزمن، وبالمصادفة فقد قرات بالأمس آخر منشورات وزارة الثقافة، وهو كتاب مترجم لمؤلفين غربيين بعنوان (همسون مفكراً سياسياً بارزاً) والخمسون المتخيرون هم من قبل الميلاد إلى اليوم ليس فيهم إلا واحد من الشرق وهو غاندي، ما يعني أن الانتلجيسيا الغربية مركزية أيضاً لا تعترف بأن رواد نهضة الشعوب الشرقية مفكرون وسياسيون، وهذا اختزال واستلاب ومصادرة للوعي أيضاً، إذ كلنا (في الهم شرق)، فالاستشراق ظاهرة ثقافية تهدف إلى دراسة الحضارات الشرقية بمنهج علمي، وإلى معرفة الشرق
واستثماره أيضاً، والمستشرقون – أغلبهم – لا يتمتعون بالموضوعية ولا بالنزاهة، فغالباً ما تناولوا التاريخ العربي والإسلامي بصورة انتقائية ومزيفة مرتبطة وظيفياً بخدمة مؤسسات الاستخبارات الغربية ومراكز صنع القرار في الدولة الاستعمارية، لذلك يرى إدوارد سعيد في كتابه الأهم (الاستشراق): أن المؤلفات والمفاهيم الغربية عن الشرق هي السبب في الشرخ الحاصل بين الحضارة الغربية والثقافة العربية، والاستشراق مشروع ناجح للغرب، الخاسر فيه الشرق. والتوجه شرقاً هو مواجهة لازمة لأهداف الاستشراق الغربي.
واليوم يأخذ الاستشراق الاستعماري الصهيوغربي اتجاهات حداثوية مخاتلة يؤطّرها طرح الليبرالية الحديثة الداعم لاستساغة وتقديم مشاريع: التطبيع بدون شروط، والدبلوماسية الروحية بدون روح، والاتفاقات الأبراهيمية بدون إبراهيم، بما في ذلك من هرولة وتفريط وتفكيك ومثليّة وشذوذ يتنافى جميعه مع الأخلاق والحضارة الوطيدتين في الروح المشرقية.
في هذا السياق ركّز السيد الرئيس بشار الأسد بسموّه وحضاريته في حواراته مع القيادة الصينية على أن (أفق العلاقة بين سورية والصين هو مفتوح وواسع لأنه يقوم على المبادئ، بعكس الغرب الذي ينظر إلى الآخرين وفق غاياته ومصالحه.… والانتقال من عالم القوة القديم إلى عالم الأخلاق الجديد يجب أن ينطلق من دور الصين التي تنتهج سياسة أخلاقية وتنمية أخلاقية.. ولا يمكن أن تكون هناك تنمية إن لم نحافظ على الجوانب الحضارية والأخلاقية والثقافية… فعندما تخسر شيئاً مادياً يمكن أن تعيد بناءه لكن عندما تخسر شيئاً فكرياً وثقافياً يذهب ولا يعود.. فالسياسة الجديدة التي نحتاجها مبنية على الأخلاق).
ومضى القادة في الصين في السياق نفسه، فقال الرئيس الصيني في القمة الثنائية: (تظل الصداقة تاريخية وراسخة مع مرور الزمن) وحمل البيان المشترك المعاني والقيم نفسها: (اتفق الرئيسان على أن الصين وسورية تربطهما علاقات تقوم على الأمانة الوفاء، وتصمد وقت الضيق…، ووافقا على إقامة علاقات الشراكة الاستراتيجية.)
لذلك ليس من فراغ أن تردد الأجيال في هذه المنطقة شعر شوقي: وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت / فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا، ولهذا فالغرب الجيوسياسي اليوم أمام تحدٍّ صعب وعصيب، ومخاطر عديدة ومتنوعة تنذر بالتفكيك والضعف، وآية ذلك، ما ينتشر كالصراصير من مفرزات العمالة الصهيوأطلسية، مانجده ونمقته مما نسمعه من مأجوريه وأبواقه الرخيصة في المنطقة من غياب للأخلاق والقيم وبذاءة في اللسان والقلب، وفساد في الرأي والمروءة، ورداءة في الوجدان والوعي ناجم كله عن حقد وإسفاف وإحباط، وغياب للمعطيات الحضارية الأخلاقية والوطنية أيضاً، مستفيدين من ترخّص ووضاعة في البثّ وفي التلقي، فهؤلاء لا موطئ قدم لهم في حواضر الشرق الجيوسياسي.
إن مظاهر الاحتفاء الراقية المتبادلة التي أحاطت بمجريات الزيارة وتفاصيلها، في زمن التحديات المشتركة كادت تغيّب أولوية البعد الاقتصادي للزيارة والذي هو هدف مهم حاضر ومنجز. وتألّق هذه المظاهر في حديث السيدة الأولى أمام الأجيال الطالعة من الطلبة الصينيين التي تدافعت بالمئات في لحظات الاستقبال والوداع لا يُنسى بما فيه من وشائج وحميمية وعفوية وهو تألّق لم يأتِ من فراغ، وكما يُقال «المحبة من الله»، إذ لا يعرف الفضل إلا ذووه.
والزيارة، كالأخلاق والقيم، زرعٌ علينا أن نعرف أ ّن حصاده بالطبيعة يحتاج إلى وقت، نجسر مدته بعملنا.