السوريون ينتخبون غدهم بالدم فعلا هذه المرة.
صباح دمشق غير كل الصباحات التي مرت بها، صباحها مغرور، سعيد بكونه لم ينبلج إثر ليل داكن تماما، فأهل دمشق وصلوا ليلهم بصباحهم، وهم يشقون شوارع العاصمة، بمواكب غير منقطعة، لسيارات يخرج من نوافذها شباب وأطفال ونساء، وهم يهتفون بصخب يضج بالحياة ويبعث على التفاؤل، لمناسبة وطنية صافية، يعلقون على انجازها كل الآمال التي تختلج بدواخلهم: نريد الحياة، الكره أعمى -الحب يرى، نريد أن نصرف الهم والحزن عن أسطحة قلوبنا، نريد أن ننشر ألواح صدرنا لتتشمس بعد أن لفها صقيع طويل.
هذا هو المشهد الذي استفاقت عليه دمشق في يوم الاستحقاق الرئاسي، أعلام سورية وصور الشهداء والأغاني الوطنية، مزقت ليل دمشق ببياض وجودها ورسوخها.
إنهم السوريون أبناء الحياة، يريدون لحياتهم أن تتعافى من وهن قديم.
صور المرشحين الثلاثة لمنصب رئاسة الجمهورية العربية السورية، تنتصب على جوانب الطرقات وهي تعلن برامجها الانتخابية من خلال عبارات طموحة، يتنافسون فيها على نيل صوت السوريين وقلوبهم باعتبار أن مقام الرئاسة في سورية تحكمه علاقة عاطفية بالشعب.
مشهد يراه السوريين في قلب جلق ، وهو أيضا اختبار أول لقوة أصواتهم وفعاليتها، في اختيار حر لأرادتهم الصلبة التي جعلت من هذا الاستحقاق، أمراً واقعاً، وسيحصل فعلا بعد أن يحمل لافتة عريضة تقول: صُنع في سورية أو سوري مئة بالمائة، أتحدث هنا عن قيمة هذا الحدث ودلالته، لا عن نتيجة متوقعة سلفا، كما يحلو لمن لا يرون في الخراب والدمار الذي يعجبهم حاله، إلا أمرا ثانويا يأتي بمراحل مقبلة.
نزلت إلى الشارع وأنا اشعر بخفة نسمة تتمايل في حقل قمح، أرى إلى يوم سوري يكاد نوره يخطف الأبصار من وهجه، يوم سيصبح إرثا في الكرامة وعزة النفس والصمود، أرى إلى أناس يختزلون البلاد بابتسامة رضا أو دمع مقهور، وهم يرفعون بأكتاف واثقة سماء لم يحدث في تاريخهم أن وقعت عليهم ولن تقع عليهم، أناس هذا ديدنهم في الوطن، الروح ترخص له.
الطفولة تنتخب شبابها.
لم أمش بعيدا لأدهش بمشهد لا يرقى إلى صدق إيحائه شك، فتية صغار محتجون من عدم قدرتهم على الاقتراع بسبب العمر، معتبرين أنهم أيضا شركاء في هذا الاستحقاق، بعد أن دخلت قتامة الحرب إلى أسرّتهم الصغيرة وتسللت إلى قلوبهم البريئة، ليكبروا بأضعاف مضاعفة لأعمارهم الحقيقة، الحرب سرقتهم من طفولتهم.
قام هؤلاء الفتية الصغار بارتجال مركز انتخابي رمزي مما تيسر لهم، إلى جانب أحد مراكز الاقتراع الرسمية، ووضعوا أوراقاً فوق صندوقهم الكرتوني، كتب عليها أسماء المرشحين الثلاثة، داعين الطفولة لأن تصبح مسؤولية.
سألت ماهر الطفل ابن العشر سنوات: ماذا تفعلون هنا، أجابني: لماذا لا يسمح لنا بأن نشارك أيضاً، قلت له الدستور الذي يحدد عمر المقترع بالثمانية عشر عاما، أجابني: انظر إلي هل أبدو لك في الصف الثالث الابتدائي؟
فعلا هو يبدو ابن هذه اليفاعة الطفولية، إلا أن وعيه وكلامه ليسا كذلك.
التهديدات التي وقعت على أسماع السوريين، كما يقع القش بالنار، جعلتهم أكثر يقينا بصوابية خيارهم، خصوصا بعد المشهد الذي قدمه نازحي هذه الحرب في لبنان، مشهد يحمل دلالات مباشرة، أربكت جانب المراهنين على موت الوطن، ومن يشد على يدههم المغلولة إلى أعناق أسيادهم، من دول وأشخاص ونفوذ ومال، نهر المتدفقين إلى اليرزة نحو مبنى السفارة السورية في لبنان قال كلمته: نريد كرامة.
واصلت التجوال على قدميّ، لأرى سيدة ستينية خارجة من مركز أخر، تتمتم بدعاء غير مفهوم لكنه أليف، استوقفني السواد الذي تتشح به، وقسماتها التي تخبر عن فعائل الزمن بها.
أمي هل انتخبت، نظرت إلي بحنان بالغ: نعم يا بني اقترعت، إلا أنني هذه المرة اقترعت بالدم فعلاً، جئت لأقول أن دم ولدي اللذين استشهدا، لم يذهب سدى، دماء شهدائنا هي من تصوت يا بني وليس نحن، بوصلتهم واضحة كهذا الصباح، رحم الله أرواحهم الطاهرة.
لم يختلف المشهد في مركز انتخابي آخر، قريب من مشفى حكومي، سيدات بأثواب بيضاء يتبادلن أحاديث خافتة وهن بانتظار أن يجيء دورهن.
السيدة مها إسماعيل، ممرضة في أحد المشافي العسكرية: ضمدتُ جراح كثير من شباب جيشنا العربي السوري، وودعتُ العديد من أولئك الرجال الذين يقابلون الموت بابتسامة، شباب بعمر الورد، سالت دمائهم فوق أرض سورية، بعد أن علمتنا كيف يصبح المستحيل ممكنا وفي متناول اليد.
“لما بغني اسمك بشوف صوتي علي”، فيروز تغني في شارع الصالحية، السوريون يخطون على قلوبهم، منهم من يرى في هذا المشهد حلماً ووعداً بغد أفضل، ومنهم من يرى أن الوقت الآن هو لتضميد الجراح.
أولويات أخرى
السيد عابد مظلوم، جالسا في مقهى الروضة، إلا أن عينيه ودخان نرجيلته العجمي يسرحان بعوالم أخرى، جفل من سلامي عليه، وكأنني أيقظته من حلم يحبه، سلام يا عم، رد السلام ودعاني حالاً للجلوس، تفضل قال أبو فايز “لقبه” بمودة وترحيب صادقين، أأطلب لك شاياً أم قهوة، مع رشفاتي الأولى للشاي، قال لي “أبو فايز”: هل ستوقف نتيجة هذه الانتخابات الحرب على سورية؟ هل سيمنع من يتآمر عليها من الداخل والخارج ويردعهم؟ لا اعتقد ذلك، مسار المصالحات وتفعيله بشكل أجدى ببذل المزيد من الجهد، هو الأولى باهتمامنا الآن، لن تفلح أي انتخابات بإصلاح الوضع القائم الآن، ما لم نصلح ذات البين.
هذا الاختلاف في الرؤية لوضع بلدنا الراهن، بما يمر به من أزمات كانت لتنهك أي مكان تمر فيه، هو دليل عافية، السوريون ناؤوا بأثقال قلوبهم، وهم يدركون اليوم قبل أي وقت آخر، أن فقدان الوطن هو فقدان للذات وللكرامة وللحرية التي نشدوا وينشدون. السوريون هذه المرة ينتخبون بالدم فعلاً.
تمام علي بركات