خريف السطوة
لم يطل الزمن بـ “النظام العالمي الجديد” ليشيخ ويمسي قديماً، فالرحلة من بداية حقبة التسعينيّات المنصرمة، التي سجلت الإعلان الكئيب عن استفراد القطب الأوحد بهذا العالم، وحتى عامنا هذا، ليست رحلة ذات وزن زمني نوعي في عمر الشعوب وحساباتها الفلكية.
من هنا يبدو على العالم تداول مفهوم آخر للجديد في النظام العالمي الراهن، قوامه العودة السريعة إلى مشهد تعددية الأقطاب، وكأن الأقدار تتشفى من تعسف المستفردين بقبضة “الكنترول” تحت عناوين أحادية القطبية، وتصفعهم بـ “توائم” الأقطاب الجديدة، فبدلاً من ثنائية السيادة ها هي مراكز القوى الكبرى تتوزع كعكة الحضور الكوني.
المشهد بأبعاده كافةً يبدو جاذباً، ولاسيما في جوانبه الراصدة لفصول حمى الاستشراس والسُّعار منقطعة النظير، التي تستحكم بمركز القطب الآفل واستطالاته وأذرعه، للدفاع عن بقايا سطوة آخذة في الانهيار والسقوط، من واشنطن، إلى المجال الأوروبي القديم، وصولاً إلى تركيا والكيان الإسرائيلي، ثمّ دويلات الخليج العربي، ومضارب آل سعود، التي يعصف بمقصورات القيادة فيها داء الخرف بنسخه وأعراضه، التي تبدأ بالرعاش ولا تنتهي بقرارات إحراق الأخضر واليابس على طريقة نكون أو لا يكون أحد.
إن قرأنا المستجدات الدولية والإقليمية من هذه الزاوية، لن يكون في المسألة ألغاز، لا في الشأن الأوكراني، ولا في شبه الجزيرة الكورية، ولا فيما جرى ويجري في سورية، ولا فيما جرى في العراق في أحدث فصول “مغامرات داعش”!. لقد اختلطت المعطيات فيما يشبه الحبكة الدرامية بعد التطوّرات الأخيرة على الساحة العراقية، وما يوازيها لدينا على مستوى سيناريوهات الإرهاب المخصصة لسورية، ما ترك آلاف التساؤلات عن هوية البصمات وماهية الأهداف والمستهدفين، لاسيما وأن علامات الارتكاب تماهت بين: الصمت عن التعليق كما في الحالة السعودية، أو المبادرة إلى الصراخ ادعاءً للبراءة كما في الحالة التركية ومراوغات “الثعلب أوغلوا” لإبعاد الشبهة، أو التلويح بالقوة الضاربة “عمليات محدودة” كما في ردة الفعل الأميركية!..
فالسعودي محرج من إشهار تجليات خصلة صفاقته بعد أن أعلن قبول إشارات التقارب مع إيران القطب الصاعد عنوةً، واختار الدفع بأدواته القذرة لخلط الأوراق، وإشعال فتنة طائفية في العراق، فصمت صمتاً مريباً، والتركي كان أكثر إحراجاً أمام تزامن ارتكابه الجديد في العراق مع زيارة الرئيس الإيراني إلى أنقرة، فكانت تمثيلية الامتعاض واحتجاز من زعموا احتجازه في القنصلية التركية بالموصل، والتصعيد الكلامي، والوعيد الأجوف الذي تنطّع به مسؤولو أنقرة، ولم تكن واشنطن أقل إحراجاً، وهي التي تنشد التهدئة مع طهران، فكانت مراءاتها شجباً.
إلّا أن جميع هؤلاء متوافقون على بلورة كيان -ولو شيطاني- يتوضّع في حيز يمتد بين الغرب العراقي والشرق السوري وشمال شرق الأردن، حيث الخلايا النائمة في معان “قد لا تتأخر في الاستفاقة”، والهدف متعدد الأبعاد والمستفيدون، من “إسرائيل” المتوجّسة دوماً من سورية قوية، إلى تركيا “الحاقدة” على عراق متماسك، إلى “مخاتير” الخليج القلقين – يمارسون الخوف ممارسةً – من الصعود الإيراني، إلى الأمريكي الذي له حساباته واسعة الطيف، وكله يندرج تحت بند الرعب من الأقطاب الجدد، الذين كان لنا نحن السوريين شرف احتضان مطرح إعلان شهادات ميلادهم وتعميمها على العالم، بعد إذاعة نعية القطب الأوحد، ومقدمات بتر أذرعه في الشرق الأوسط.
وعلى الأرجح ستطول المعركة مع الإرهاب، لأننا في سورية كما في العراق بصدد حملة تنظيف لبقايا “جيف ” القطب المحتضر، ومن طبيعة مهمات التطهير أن تستغرق وقتاً يتطلب جلداً وصبراً طويلين.
نــاظــم عـيـد