ثقافة

فـــي بيتنا سينما..!!

بحنين باهظ، أستعيد تلك اللحظات الفاتنة التي أخذت بيد وعيي، وجعلته يقفز سور المحرّم والممنوع، لأقفز بدوري سور المدرسة، مندسّاً وثلة من الأصدقاء في الباص الأخضر القديم.. هل تذكرونه؟ ذاك الذي يتّسع لكلّ الناس، مبهورين حيناً بالألفة المحشورة بين المقاعد، وخائفين أن يرانا مَن يعرف أهلينا حيناً آخر، فينمّ علينا لننال نصيبنا من ألم المتعة، حين لا متعة من دون ألم، متعة ترتجف القلوب الصغيرة لوقع اسمها، مفتونة بعالمها الساحر الغامض بأسراره، ورؤاه، والخرافات التي نمت كالطحالب فوق رئاتنا من مغبّة الوقوع في هواه، والانصياع لفتنته الضارية، لكن من له أن يقاوم ذلك الارتماء الكلّي في أحضان العتمة، وكأنّه يتأرجح في مجرّة بعيدة.
على الواجهة الزجاجيّة المكتظّة بصور الإغراء، والفتيات الأجنبيات الفاردات شعورهنّ للريح، وأجسادهن لمرمى الغواية “شرك الطفولة المطعونة بالتستورون”، تنزلق نظراتنا المشتعلة رهبة ممزوجة بحرية لم أكن أفهم سرّ سطوتها حينها، والأدرينالين يجعل القلوب الفتيّة تكاد «تنطّ» من أقفاصنا الصدرية، وتسبقنا لولوج مكامن السحر والبهاء النديّ في القاعة الخالية صباحاً إلا من رجل يكنس الثرثرات والقبل المختلسة من بين مقاعد الليلة الماضية، إلا أنّ كلمتين كتبتا بالخط الأحمر ضمن دائرة حمراء كادتا تجعلان من تلك الرحلة المجنونة التي قمنا بها متواطئين بالنظرات المتبادلة بيننا، وبأوراق نمرّرها بالأيادي من تحت المقاعد كلصّ ظريف، نتفق فيها على الزمان “الفرصة الأولى”، والمكان “سور المدرسة الجنوبي”، هباء تذروه الرقابة كما كنّا نعتقد “للكبار فقط”، بينما هي في حقيقتها طعم تقليدي للساذجين أمثالنا.. للكبار فقط! لكنّنا كبار يا هذا، ألا ترى علب التبغ في أيدينا، والسجائر تتدلى من شفاهنا كأغنية؟ ينظر إلينا قاطع التذاكر، ونحن نقف على رؤوس أصابعنا لتمتدّ قامتنا وتعلو أكثر، وهو يضحك بتواطؤ مفتعل مع حيرتنا، بعد أن يأخذ نقودنا المتعرّقة في أكفنا (خمس ليرات لكلّ راس)، ويعطينا التذاكر الزرقاء الصغيرة، لكلّ واحد تذكرته، مفتاح بابه الساحر الذي يفصل بين الحياة بمرورها الصاخب بشارع الصالحية، والعتمة الأخّاذة ببريق ملوّن يمرّره رجل نصف نائم فوق بكرة في لفاتها تنام الرغبة والألم لفتية دفعوا دقّات قلوبهم وسنين إضافيّة من أعمارهم جرّاء الخوف الذي اعتراهم، وهم يُحوّلون يوم مدرسة مملاً إلى يوم احتفاء بالحياة، بالسينما، بالعمر، وهو يمرّ الآن تحت خائنة العيون الدامعة.
أستعيد تلك اللحظات، ولا أدري حقاً إن كانت عيني تؤلمني، أم أنّها دمعة مرّت كامرأة هاجرة بعد أن أخبرتني: ياه كم كبرنا، وكم تغير العالم، أستعيدها وأنا جالس في بيتي أقلب بـ “الريموت كونترول”، وأنتقل من فيلم إلى آخر دون أن تهفو روحي لمشهد، أو لاسم أحبّه، ولكن كيف لها أن تهفو وحولي تصخب الحياة بمرأى كهولتي، أطفال يقطعون شرودي بكلمة لم أعتدها بعد “بابا بابا”، لأنتبه إلى أنني لست ذلك الفتى الراكض في الذاكرة، وما أشاهده على التلفاز ليس إلا مزحة سمجة اسمها “السينما في بيتك”، عفواً، “السينما في بيتي”! وماذا تفعل السيدة سينما في بيتي؟ من دعاها أساساً ودعا هاريسون فورد، ونيكول كيدمان بطاحونتها الحمراء، وتوم هانكس مع السيدة فيلادلفيا؟ من دعاهم، وفتح لهم الباب؟ هل أنت يا بلقيس، أم أنها فعلتك يا مريم؟ إيّاكن أن تقلن إنّه كرم الذي فعل ذلك، فهو لا يستطيع أن يفتح الباب بأشهره الخمسة، ينظرن إليّ بدهشة وتقول إحداهنّ: “بابيتو شعرك في تلج”.
كيف لي أن أخرج من ورطة الذاكرة الوجدانية العالية تلك، ورهافة الصبا لأصوّب قلمي إلى ورقة بيضاء، وأكتب مقالاً عن السينما.. أيّ سينما تقصد يا صديقي رئيس التحرير؟ هل السينما التي سهوت قليلاً، فوجدتها بكامل “كلوباتها”، وأضوائها، ونجومها في بيتي؟ أم سينما الأفلام المزاجية والمازوشية بالهاتف المحمول؟ أو لعلّك تقصد سينما اليوتيوب المكتظة بأفلام لا رأس لها ولا قدم، أو سينما “الكريتركام” وأفلامها عن ماذا فعلت الفقمة، وأين نام الأسد؟ كلّ هذا وأنا جالس في البيت دون أن أحرّك ساكناً، اللهمّ إلا لأحضر ابريق المتة، شريكتي في وحشة الليل، أين صار “ذهب مع الريح”، وكلّ شيء هادئ على الجبهة الغربية، وراشومون؟ أين اختبأ دريد لحام، ونهاد قلعي، وبسام كوسا، وعبد اللطيف عبد الحميد، ومتى تستيقظ السندريلا سعاد حسني من غفوتها الفجائعية؟ أين نجوم النهار و”حبيبي يا حب التوت”، و”صهيل الجهات”؟ أين ذهبت دور السينما التي تشبهنا؟ أين رحل طلاب المدارس، أولئك الهاربون من دروس الرياضيات، والتاريخ ليختبئوا في عتمة السينما المذهلة؟ أين ذهبت متعة السينما، وهرولة القلب في مصبات القطيعة، وإطفاءات الضوء، وورقة الخمس ليرات الخضراء؟ أين ذهب بشار، وباسم، وسامر، عصبة بروك شيلدز، وبحيرتها الزرقاء؟ أين اختفى قاطع التذاكر، والرجل نصف النائم فوق بكرة الفيلم؟ أين ذهبوا جميعاً؟ هل أنا متخلّف ولا أجاري التطوّر التكنولوجي المريح، أم أنه الحنين إلى تلك الأيام ما جعلني أسرد هذا الهذر كله؟ ولكنّي واثق وأكيد من أنني عندما أريد أن أعرّف أولادي إلى السينما، لن تكون، بالتأكيد، تلك السينما التي تتحدّاك في أن تغمض عينيك، وأنت ستموت من التثاؤب، أو سينما “لا تروح ولا تجي نحنا منجي لعندك”، أو السينما في بيتك، بل سأهرب معهم، وسنقفز سور البيت والشاشة مغافلين حارسة البوابة “أدع لكم أن تحذَروا من”، مهرولين نحو الباص الأخضر لنصل إلى الواجهة الزجاجية اللامعة، ونلج العالم المسحور، هم بدهشتهم الأولى وأنا بدهشتي المخضبة بالحنين.
إلا أنّ سؤالاً يؤرّقني قبل القيام بهذه المغامرة العائلية: هل إذا ذهبت مع أولادي في غفلة من الزمن الماكر، ونزلنا إلى السينما، هل سنجدها كما أعرفها، أم أنها صارت في البيت، وانتهت الحكاية والغواية؟ سأخرج من المشهد إذاً، وأدع لهم أن يقرّروا، وهم متوهمون غضبي، أيّ سينما يريدون الذهاب إليها بقلوبهم أولاً، أما أنا، فعليّ أن أستقبلها وأجلسها في صدر البيت لأنه ـ كما تعرفون ـ السيدة سينما صارت في البيت شئنا أم أبينا، وطبعاً لا نستطيع أن نغمض أعيننا عنها.. هكذا تقول.. ماذا عنكم؟ هل زارتكم أيضاً؟!.
تمام علي بركات