ثقافة

الدراما بين جلالة التراجيديا وهزلية الكوميديا

تبيّن بدايات الدراما بشقيها التراجيدي، والكوميدي الفروق الحاصلة بين الاتجاهين، فقد كانت للتراجيديا علاقة عضوية بالطقس الديني الميثولوجي، وبالشعائر المفروضة، حيث كانت في جوهرها عبارة عن محاكاة لطقس من الطقوس، أو فعل، أو مجموعة أفعال، لذلك كان لها ذلك الطابع الجليل، وقد يكون هذا هو الدافع الذي جعل أرسطو يدعو لكي تعمل التراجيديا على محاكاة فضلاء الناس، وأن تقدمهم بطريقة فيها منتهى الاحترام، والإجلال، أما الكوميديا فهناك اعتقاد بأنها نشأت عن نزعة القص، أو الإخبار، وذلك حين كانت اللغة لا تتسع لذكر كل شيء، أو ما حدث، فكان لابد من محاكاة الحدث الواقعي بطريقة تنزع لأن تكون مطابقة، أو رمزية في حال تعذر ذلك، لكن التكرار جعل كل الأحداث الحياتية الواقعية تقدم بطريقة فيها الكثير من المفارقة، والتهكم، إما من مسبب الحدث، أو مما جرى، وهو تهكم احتجاجي يصل إلى حد الانتقامي، أو تهكم، وسخرية من سيرورة الحدث، غرابته، أو أثره، وفيما بعد أخذت التراجيديا تخرج من سياق الديني المقدس دون أن تلغي وجوده، فقد نحت منحى تناول أحداث جسيمة فاصلة ذات تأثير كبير على مصير البشر مع بقاء الأثر الغيبي، حيث لم تكن الشخصيات تواجه مصيرها منفردة بمعزل عن الغيبي المقدس، فلابد من وجود رباني يؤازر، أو يعارض ما يحدث، وذلك وفق الأكليروس الديني الذي كان سائداً، كما عند الإغريق مثلاً، ونجد مثلاً جلياً على ذلك في “أوديب ملاكاً”.
ومع انتفاء القدسية عن الطقس الديني الميثولوجي بتأثير التطور البشري، وظهور الديانات التوحيدية، ظلت التراجيديا على نزوعها لأسطرة شخوصها، وإعطائهم طابعاً إجلالياً، لذلك نراها اختصت بالقضايا الجادة، هذا الإجلال بالذات، وطبيعة شخصياتها السامية جعلاها موضوعاً للتمثل، والنزوع للتشبه بها إلى درجة التماهي من قبل المشاهد حتى ولو كانت ذات طابع مأساوي مؤلم، بينما كانت شخوص الكوميديا تتبلور من تصرفات قابلة للنمذجة في تناولها للسلوك الإنساني، وتركيزها على مثالب، وعيوب البشر، وهذا بالضبط ما يجعلها غير جديرة بأن تكون موضوعاً للتمثل، والرغبة بالتشبه بها من قبل المتلقي.
خرجت الدراما فيما بعد عن تلك الحدود الصارمة للقسمين، فتداخلا فيما دعي “التراجيكوميدي”، فهناك شخصيات، وأحداث تراجيدية جادة قدمت في مواقف ذات طابع كوميدي في إطار العمل التراجيدي، والعكس صحيح، لكن هذا لم يلغ من الطابع العام للشخصية، فحتى الكوميديا التي تقدم فيها الشخصيات التراجيدية لم تنل من جلالتها، واحترامها إلا تلك الشخصيات التي بولغ بإظهار وقارها، لدرجة أنها تحولت إلى ما يثير السخرية، والعكس صحيح، فجل ما قدمته المواقف التراجيدية للشخصيات الكوميدية هو استجرار الشفقة لا غير.
ما سبق كان ينطبق بشكل خاص على المسرح، فهو الأب الشرعي والحرام للدراما في أشكالها التالية، السينمائية، والتلفزيونية، ولكن كان لابد للتقنيات من أن تلعب دورها في تغيير طابع الشخصيات المقدمة، فالعروض هنا مختلفة كلياً من حيث الفضاء الزمكاني، والتلقي، والمحاكاة أخذت طابعاً آخر، حيث أعطيت حرية أكبر للشخصية، ومساحة أكبر، حيث أصبحت المشاهد، وأصبح الأداء يسعى لأن يكون أقرب لحقيقة الحياة، وأصبح الكادر ينزع لأن يكون كادر الواقع، بدل ذلك التركيز، والحذف الذي كان سائداً في المسرح لصالح خلق تبئير للحدث، والأداء ضمن حدود الممكن من حيث الزمان، والمكان.
في الدراما العربية التي تبلورت في الثلث الأول من القرن العشرين، نجد أنها بشقيها لم تبق في إطار التصنيف التقليدي لها، خاصة بعد دخولها في تقنية الصورة، السينما، فمحددات التراجيديا أضحت أكثر مرونة، وكذلك الكوميديا، مع بقاء سمات أساسية خاصة بالشخصيات التراجيدية، والشخصيات الكوميدية لم ينل منها التغيير، خاصة تلك الشخصيات التي كان يؤديها ممثلون انتقلوا من المسرح إلى السينما كيوسف وهبي مثلاً، فهو لم يتخل عن نزوعه، وإصراره على إبراز جلالة وعظمة الشخصية التي يمثّلها، وذلك بأسلوب المدرسة الايطالية الذي درسه في روما، والذي يعتمد على التفخيم حتى ولو كانت تلك الشخصية كوميدية، كما في فيلم “إشاعة حب”، رغم أن هناك من رأى أن وهبي برع كممثل كوميدي، لكن تلك البراعة لا تعني أنه تخلى عن أسلوبه التقليدي، وفي المقابل نجد أمين الريحاني، لم يستطع أن يتخلى عن الهزلية، والسخرية حتى ولو كان يمثل شخصية لا تستوجب ذلك، كما نجد في فيلم “سلامة بخير”، رغم أن الفيلم كله يقوم على المفارقة القائمة على تقمص شخصية الأمير، لكن لأداء الريحاني طابعاً من السخرية لابد أن يظهر في أي دور يؤديه، تلك السخرية الناجمة عن الألم، والمعاناة، والتي يمكن إدراجها في إطار ما سمي بالكوميديا السوداء، ذلك النمط الذي عرف في الدراما الشرقية.
لم تبق في الدراما المعاصرة للتراجيديا تلك الجلالة، لأن التراجيديا بالذات لم تبق كما هي، فالحياة المعاصرة فرضت أنماطاً مختلفة للشخصيات الفنية، لا تحتمل لا الأسطرة، ولا تلك الجلالة التي تصل حد التقديس، والحدث الذي تقوم عليه الدراما المعاصرة لم تبق له من سمات الحدث التراجيدي إلا تلك المواجهة الحدية مع قوى لا قبيل للبطل بمواجهتها، وهذا ما فرض اختلاف معالجتها الفنية عما سبق خاصة في المسرح.
أما الكوميديا فهي الأخرى عملت على  أن تكون أكثر محاكاة لتلك النماذج البشرية التي تجسّد المفارقة، أو المواقف التي تحمل الكثير من الغرابة، والطرافة، لكن الكثير منها انحدر أخيراً إلى درجة الهزل، خاصة تلك التي اعتمدت التهكم على العيوب البشرية الجسدية الخلقية، بدءاً من اللعب على شكل الممثل، كما نجد في كوميديا إسماعيل ياسين في الستينيات، خاصة التركيز على شكل فمه، وحتى في الكوميديا الأحدث نجد مبالغة ممجوجة في فبركة فيزكس الشخصية، معتمدة في ذلك على مفاهيم أضحت بالية في رسم الشخصية الكوميدية، فنجد افتعال غرابة اللباس، كما في مسلسل “عيلة ثماني نجوم” مثلاً الذي يبدو الممثلون فيه أقرب إلى مهرجين دون لحم ودم، وغيره من المسلسلات الفقيرة والجافة كوميدياً، والتي حاولت اعتماد الشكل والكاركتر في محاولتها التعويض عن الموقف، إضافة إلى تلك التي اعتمدت اللفظ في محاولتها افتعال المواقف المضحكة فيما يدعى كوميديا الكلمة، وهي سمة غالبة في الكوميديا العربية.
مفيد عيسى أحمد