إذاعة شام اف ام في عيدها السابع..أثير هواه سوري وابرة جهتها الوحيدة وطن شهداؤه أعزّ من فيه وناسه أكرم العالمين
رغم اعتذار دار الاوبرا السورية عن استقبال الأطفال الذين تقل أعمارهم عن ثماني سنوات في الحفل الذي أقامته إذاعة شام اف ام تحت عنوان: “ايه في أمل” في دار الاوبرا بدمشق بمناسبة مرور سبع سنوات على تحرك ابرة بثها الإذاعي السابح في الفضاء، لأول مرة “2007”، إلا أن الأطفال جاؤوا أيضاً ليحتفلوا معها بقلوبهم البيضاء كالصبح النقي، فالأطفال أحبوها بصدقهم الطاهر، ربما لأن البعض منهم قرأ على شريطها الإخباري اسم والده أو أخيه الذي استشهد، وفرح قلبه عندما شاهد اسم من يحب يمر أمام ناظريه، وكأنه من لحم ودم، وربما لأن البعض الآخر منهم أحبها عندما شاهد على شاشتها قريته المجهولة، وقفز فرحاً لينادي أهله، أن تعالوا ها هي قريتنا، البصمة الأجمل لـ “شام اف ام” بتعريف الناس بقرى سورية حتى الصغيرة منها، بطبيعتها الخالبة للألباب، وسمائها النظيفة.
الألفة والحميمية والعفوية، كانت هي النسمة العابقة بمزاج هذا الحفل الذي جاء برعاية رسمية من وزارة الإعلام، ووزارة الثقافة، وإحدى الشركات الوطنية الخاصة “سيريتل” التي أطلقت خلال هذا الحفل مشروعها وواجبها تجاه أسر الشهداء، رافعة شعار “أسر الشهداء أمانة في أعناقنا”.
عمل كل من مدير إذاعة شام اف ام، وأسرة الإذاعة جميعاً على استقبال الحضور الرسمي والشعبي بكل الود الذي أشاعته ابتسامة السيدة نجلاء قباني، قبل الولوج إلى قاعة الحفل، ثم الوقوف على نياط القلب دقيقة صمت على أرواح من أوتوا من العزم والشرف والنبل أشده وأعزه، من حرست أرواحهم الخالدة الوطن، كل الوطن، والسوريين كل السوريين، الذين لولا جودهم بالأغلى لما كان لنا أن نجتمع، كما نحن مجتمعون اليوم، أرواح الشهداء التي شعر بوجودها الإنسان نبيل الروح، والفنان السوري “دريد لحام”، أحد المكرمين في الحفل، حيث قال: “إنني أشعر بأن أرواحهم معنا في هذه القاعة، هؤلاء الذين لا يفيهم حقهم أي وصف، وأي تكريم، لا يريدون منا أن نقف دقيقة صمت على أرواحهم، بل هم يطلبون منا ألا نفوت أية دقيقة إلا لبناء سورية، وإرجاعها قبلة المحبة والتسامح، مزار الكرامة.. مَن يحج إليه الناس من كل فج عميق ليتباركوا بترابه، ويأخذوا من أغصان ليمونه، وزيتونه، تذكاراً سماوياً يصد عنهم الأذى أينما حلوا”.
وأنا هنا جرح الهوى
الأغنية الافتتاحية للحفل “يا شام عاد الصيف”، غنتها الفنانة ليندا بيطار، وهو خيار ذكي وجميل وضع الجمهور بأجواء “شام اف ام” التي تعبق من أرجاء تردداتها أغاني السيدة فيروز، وأعمالها المسرحية صباحاً ومساء أيضاً، كاسرة بشدة وهم أن فيروز سيدة الصباح فقط، لأنها في المساء أيضاً سيدة المساء، وذلك من خلال برنامجها اليومي فيروزيات، كما أن لهذه الأغنية بالتحديد ذكريات لا تنسى مع السوريين عندما كانوا يفتتحون بها فرح الصيف ومازالوا رغم الأسى.
كلام من القلب تحدث به مدير الإذاعة سامر يوسف إلى الحضور ليقدم السيدة التي يراها تجسد روح وأصالة ونقاء وصدق سورية، الأديبة كوليت خوري، حيث قال: “عندما تقول كوليت خوري أنا الشام، الكل يصدق ما تقول، وكأنها بديهة، فهذه السيدة الدمشقية خبرت كأمها سورية معادن الأوطان، وعرفت أن الوطن وحده هو الذهب وأن كل ما عداه وهم”، ولأن “خوري” من القامات السورية الشامخة كقاسيون، فإنها تعرف أيضاً قيمة كل قامة وطنية وإنسانية سورية، لذا كان عناقها لضمير الدراما السورية “دريد لحام” عناق سنديانة لمطر، لأنهما من الفريق ذاته، كما قالت صاحبة “دمشق بيتي الكبير”: (أنا وأنت من الزمن العزيز)، لتهب عاصفة من التصفيق بعد أن أردفت: (الأوطان المجيدة لا يكون غناها ببترول وغيره، بل بأبنائها الذين يصنعون التاريخ، ووطن لديه أبناء مستعدون للموت في سبيله كلما ناداهم، هو وطن لا يمكن إلا أن يكون عزيزاً، وأبناؤه أعزاء وسادة)، ليشدو بعدها “غوار الطوشة” بالأغنية الشهيرة “بكتب اسمك يا بلادي”.
تخللت الحفل مجموعة من المشاهد الفيلمية القصيرة التي استعرضت مسيرة الإذاعة من خلال مجموعة من الصور مع العديد من الفنانين والمثقفين السوريين والعرب، ومنهم من كان حاضراً في الاحتفال، وشكر بمحبة هذه اللفتة الطيبة في التكريم، إلا أن عزيز كلامهم جاء عن سورية، وشهداء عزتها، ورجال جيشها الأغلى، ومن المكرمين الحاضرين الكاتب حسن م يوسف الذي وعد الشهداء بأن الراية التي تركوها عالية لن تنحني أبداً، والمخرج “نجدة أنزور” الذي قدمت له التكريم وزيرة الثقافة د. لبانة مشوح، وأيضاً ابن حلب الشهباء الجريحة الشاعر صفوح شغالة، والفنانة سلاف فواخرجي التي قالت بعد أن كرّمها وزير الإعلام عمران الزعبي: “مبروك لشامنا نصرها، أنا أفتخر بهذا التكريم من إذاعة شام اف ام لأنها منتج وطني سوري خالص”.
ايه في أمل
سكت الهواء قليلاً، فصوت أليف ودافئ كرائحة قهوة يتلصص على عباءتها.. صبح وياسمين بدأ يبدد عتمة المسرح، لقد سكت الهواء فعلاً دون أدنى “نأمة”، فسيدة الهواء تتكلم الآن.
حكاية وقفت لها القلوب، والسيدة “هيام حموي” ترتل مزاميرها، حكاية حب وفرح وذكريات سعيدة روتها “حموي”، وكأنها في يوم عمل في الإذاعة التي أعادت إليها الروح الإذاعية الثالثة، فالإعلامية التي كانت قد بدأت تشعر بالإحباط من كون الإعلام الإذاعي بدأ يتراجع أمام التقدم التقني البصري والمعلوماتي، فأراد أن يقتطع من برنامجها في إذاعة مونت كارلو الناطقة بالعربية، أكثر ما يشعر روحها الشفافة بالدفء، صوت فيروز، لذا عندما اتصل بها سامر يوسف وأخبرها بأنه يعمل على إطلاق إذاعة وطنية جديدة، ويتمنى أن تكون معهم، طلبت إليه شرطاً لموافقتها بأنها تريد لصديقتها “أم زياد” ألا تفارقها، فأجابها “يوسف”: هذا ما نفكر به سيدة هيام، لن تكون “شام اف ام” إلا إذاعة أصيلة تقدم كل أصيل، وكل ما هو في خدمة سورية، وخدمة كرامتها.
“حموي” لم يفتها أيضاً أن تكون فيروز حاضرة بأكثر من أغنية، خلال المدة التي تحدثت بها بصوتها المرئي دفئه وأنوثته الباذخة هذه المرة.
لم أنتبه للدموع التي بدأت تتسلل من عيني، وأنا أشاهد الزميل العزيز والإعلامي البطل “حيدر رزوق” مراسل “شام اف ام” في حمص الذي أصيب بطلق غادر أقعده فوق كرسي متحرك، بينما كان ينقل صوت الحقيقة والحق من إحدى ساحات القتال، “رزوق” الذي حمله الأحبة والأصدقاء إلى صدر القاعة وأكف الحاضرين تبكي أيضاً على تردد صدى دمعته التي قالت: أحب سورية.
المصداقية والمحبة التي جهدت “شام اف ام” لكسب قلوب الناس بها وسط هذا البحر المتلاطم من الإذاعات العريقة، ومن أشباه الإذاعات، جاءت حقيقة بعد عمل دؤوب قدمه فريقها في كافة المناحي الاجتماعية، والسياسية، والثقافية، والاقتصادية، وبجرأة عالية وجديدة على الإعلام السوري، إلا أن الدور الوطني الكبير الذي اضطلعت به بعد بدء هذه الحرب الخسيسة على سورية، كان له الأثر الأكبر في كسب ثقة المستمعين لأسباب عدة، منها السرعة في نقل الخبر من مكان الحدث، مصداقية هذا الخبر، وإعطاء أي مستجد على أرض المعركة العسكرية، والسياسية حقه من التحليل، والقراءة، والاستنتاج، كما أنها كانت صلة وصل حقيقية بين رجال الجيش العربي السوري المرابطين في ساحات الوغى وذويهم، ومنبراً للفخر ببطولات هذا الجيش وتضحياته العظام.
ولكم أثلجت صدر أم لم تذق طعم النوم مذ غاب ضناها ببثها خبر عودته، وكم نقلت بأمانة مشاعر الطفل الملهوف على والده، والزوجة الخائفة على زوجها، والحبيبة المنتظرة عودة حبيبها ليهديها نصراً لاحت تباشير قبابه بالظهور من خلف تلك الجبال المرقطة بشقائق النعمان الندية.
تمام علي بركات